Sadaonline

طريقة للتَّكَيُّف مع القتلة (2)

 د. علي ضاهر

 

في المقال السابق تمّ الكلام عن الروابط التي يعمل الغرب على نسجها بإستمرار مع اسرائيل حتى يبرّر لنفسه ولشعوبه التعاطف معها والدفاع عنها. في هذه المقالة الكلام سيتمحور حول روابط استحدثها الغرب وعمل منذ تأسيس اسرائيل لجمعها به وبشعوبه. فمن الملاحظ، ان الغرب أمضى عشرات السنين في العمل على مراكمة تلك الروابط والتي من ضمنها يمكن التركيز على إثنين: 1- مفهوم "اليهود-مسيحية" و2- تبرئة اليهود من دم المسيح.

 1- مفهوم "اليهود-مسيحية". قديما كان الغرب مستبعدا لليهودية فاصلا بينها وبين المسيحية. كان كارها لليهود وملصقا بهم أبغض الصفات. ينظر إليهم كخونة لعيسى، وغير جديرين بالثقة، لدرجة انه في القرن الثالث عشر أصبح إقصاء اليهود عقيدة كَنَسية، مما عرّض اليهود، على مدى وجودهم في الغرب، لمذابح وعمليات تهجير كما وتمّ منعهم من تولّي مناصب ووظائف في المؤسسات الحكومية والجيش، مشترطين عليهم وضع شارة يهودية وإجبارهم على العيش في مناطق وأزقة محدّدة. وخير شاهد على ما تعرض له اليهود في الغرب، يتمثل بما فعله بهم الألمان: إجبارهم على العمل في معسكرات الإعتقال، وضعهم في عربات قطار مخصّصة للحيوانات ونقلهم إلى مراكز قتل ومعسكرات إبادة حيث جرى إعدامهم.

 لكن وبعد ان تمّ زرع اسرائيل في فلسطين، انقلبت الآية وأصبح من الضرورة العمل على تقريب اليهود والمسيحيين عبر مسح كل ما يبعد بينهم وإبراز ما يجمعهم، ولو ادى ذلك الى استنباط أفكار يمكن ان تربطهم وتوحدهم، وذلك خدمة للجانبين. فطفا في الغرب رابط "اليهود-مسيحية". وهو رابط استنبط ليوحي وكأن الديانتين ديانة واحدة. هذا الرابط "اليهود-مسيحي" المشترك أدرجه الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور في اللغة العامة في خطابه في نهاية 1952، ويقضي ضمناً بإنشاء حدود بين المسيحية واليهودية من جهة وباقي الأديان من جهة ثانية. وتمّ التركيز من خلاله على دمج اليهود كجزء شرعي لا يتجزأ من المجتمع الغربي بعدما كانوا، وحتى النصف الأول من القرن الماضي، لا يزالون يُصنّفون مع المسلمين باعتبارهم "ساميين" أو "شرقيين". (يتم حاليا استخدام رابط "اليهود-مسيحية" لإقصاء المسلمين من الفضاء الأوروبي والتهجّم عليهم كما نرى ذلك في خطاب اليمين الغربي من أمثال نايجل فاراج في المملكة المتحدة، ومارين لوبان في فرنسا أو في بيان حزب البديل من أجل ألمانيا.)

 2- تبرئة اليهود من دم المسيح. لكن شدّ اليهودية الى المسيحية وابتكار رابط "اليهود-مسيحية" لم يكفي وحده لتغيير المناخ الغربي تجاه اليهودية وجعل الانسان الغربي متضامنا ومدافعا عن اليهود سيما وان هناك عائقا كبيرا كان موجودا بين الديانتين، ويتمثل بإيمان المسيحيين برسالة المسيح الحقة وبموقف اليهود الرافض لها ولشخص المسيح بحد ذاته وماقاموا به للتخلص منه. لذا ولزيادة توطيد عرى الرابط "اليهود-مسيحية" كان لا بدّ من مسح كل مواقف اليهود من المسيح وما قاموا به من تحريض لإهدار دمه. فبرزت فكرة "تبرئة اليهود من دم المسيح"، وحرى العمل على التسويق لها بحرارة وذلك بالرغم من ان اوساطا مسيحية عديدة ما زالت على اقتناعها إن الإنجيل واضح ولا يحق لأي جهة أن تحرّفه. فمضطهد المسيح والمتآمر عليه وصالبه واضح في الأناجيل التي تؤكد بصراحة بأن جماعة من اليهود، وتصفهم بالكتبة والفرّيسيين، هم الذين تآمروا ووقفوا فوق قضية صلب المسيح، بعلامة ان رئيس كهنة اليهود "قيافا" نفسه قال في ذلك الوقت "دمه علينا وعلى أولادنا".

 لكن اوساطا كنسية، ولأسباب ما، جهدت للعمل على تبرئة اليهود من دم المسيح عبر سلسلة من الخطوات، كان أوجّها حين تمّ تقديم اعتذار عن المآسي التي حصلت لليهود بسببها أو بسبب تقصيرها في حمايتهم، كما صرّحت. ثم كرّت سبحة المواقف والتي توّجها البابا يوحنا بولس الثاني عام 1986، بتصريح قال فيه: "بالنسبة إلينا، ليست الديانة اليهودية ديانة خارجية، بل إنها تنتمي إلى قلب ديانتنا، وعلاقتنا بالديانة اليهودية مختلفة عن علاقتنا بأي دين آخر. أنتم إخوتنا الأحباء ونستطيع القول ما معناه، أنتم إخوتنا الكبار". وهو تصريح، أدرج فيما بعد كجزء من التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية.

 بعد ربط اليهودية بالمسيحية وتبرئة اليهود من دم المسيح، والإعتذار عن المآسي التي حصلت لليهود بسبب الكنيسة، جاءت المحرقة كهبة إلهية للغرب استفاد منها في ثلاثة أمور:
1- التخلص من فقراء اليهود وإرسالهم الى الدولة التي اقامها لهم في فلسطين، 2- خلق عقدة ذنب عند شعوب الغرب لإستجرار عطفهم ودفعهم للتضامن مع اسرائيل والدفاع عنها و، 3- إقامة قاعدة موثقة ومتقدمة للغرب في الشرق الأوسط الى جانب قواعده العسكرية الأخرى المنتشرة في اكثر من دولة عربية. ثم ولترسيخ التعاطف والتضامن سعى الغرب الى تسييج اسرائيل بمفهومين لا يمكن المسّ بهما والذي جعل منهما عجلا مقدسا يعبد وسيفا مسلطا فوق رأس كل من يحاول انتقاد اسرائيل: معاداة السامية والمحرقة! وهو ما سنبحثه في مقال لاحق.

 

*تم استخدام صورة غلاف هذه المقالة منFreepik  لأغراض توضيحية فقط

الكلمات الدالة