وليد حديد - مونتريال
غزّة ليست مجرّد مدينة تُقصف،
بل مرآةٌ ضخمة أمام وجه البشرية،
امتحانٌ أخلاقيٌ وتاريخي،
لكل من يعتقد أنه يحكم هذا الكوكب:
رؤساءُ الدول،
أباطرةُ المال،
أصحابُ الشركات العابرة للقارات،
الدوائر الخفية،
المحافل الماسونية،
وتحوّلات الحركة الصهيونية…
غزّة تُعرّي الجميع.
كما عَرّى التاريخُ من قبلَ:
سقوط الإمبراطورية الرومانية حين اختارت الفساد على العدالة،
وانهيار الأندلس عندما تخلّى الإنسان عن التعايش لصالح الطمع،
حين دُمرت حضارة كانت سببًا في تقدم أوروبا،
وحُوّلت إلى حرب دينية، قُتل فيها المسلمون واليهود باسم الطمع.
وسقوط الإمبراطورية العثمانية،
حين تحوّلت إلى نزوات سلاطين،
وانضمت إلى المحور النازي في لعبة مصالح دولية.
وانهيار برلين تحت نيران الحلفاء،
لأنّ ألمانيا سلّمت رقبتها لفكرٍ نازي،
رفع شعارات السيادة والتفوّق،
ثم حوّل البشر إلى رماد…
وكما حذرنا ونستون تشرشل بقوله:
“عندما تتجاهل الأمم الظلم، فإنها تحفر قبورها بأيديها.”
ألا يُشبه هذا ما نراه اليوم؟
تُرفع شعارات الدفاع عن النفس،
بينما يُباد شعبٌ بأكمله على مرأى العالم!
غزّة اليوم تُعيد فتح نفس الجراح:
القتل الجماعي،
التهجير،
الحصار،
وتحالفات دولية تصمت أو تبرّر،
كما صمت العالم على الهولوكوست في بداياته،
ثم تباكى لاحقًا على الضحايا…
لكن السؤال الحقيقي الآن:
من الضحية؟ ومن الجلاد؟
ما يحدث في غزة ليس أزمةً محلية،
بل تحوّلٌ عالمي،
كما كانت الحرب العالمية الأولى شرارة لتفكك الإمبراطوريات،
وكما كانت الثانية نهايةً للعالم القديم،
فإن غزّة قد تكون بداية لانهيار هذا العالم المتحضّر شكلاً،
البدائيّ جوهرًا.
الإنسان،
حين يفقد القيم،
يخترع الشر ليبرّره باسم القانون.
والأنظمة،
حين تعجز عن حماية الحق،
تُشرعن الجريمة.
غزّة اليوم لا تمتحن الفلسطيني وحده،
بل تمتحننا جميعًا:
في وعيِنا،
في صمتنا،
وفي زيف إنسانيتنا.
فإما أن نستيقظ،
أو نسقط مجددًا… كما سقطت روما،
كما سقطت برلين،
كما سقطت كل حضارة خانت الإنسان.
غزّة… مرآة سقوط العالم الحديث
في العصور الماضية،
كانت الحروب تنشب بالسيوف والرماح،
يموت الجنود في ساحات بعيدة،
ولا تصل أصداء الصراخ إلا إلى حدود الممالك…
أما اليوم،
فالعالم قرية صغيرة،
مربوطة بأنابيب المعلومات،
وصراخ طفل في غزّة
يصل إلى قاعات الأمم المتحدة،
ويدخل غرف النوم في نيويورك وطوكيو وجوهانسبورغ.
وقد حذّر ألبرت أينشتاين من هذا الانحدار مبكرًا، حين قال:
“أخشى أن تصبح التكنولوجيا أهم من الإنسان،
سيحصل العالم على جيل من الحمقى.”
ومع ذلك،
يموت الطفل،
ويُقطع التيار،
ويُحاصر الهواء والماء،
ويُدفن الإنسان حيًّا تحت الأنقاض،
ولا يتحرّك أحد.
غزّة ليست مجرد جرح فلسطيني،
إنها نقطة اختبار لعصر بأكمله،
اختبار للضمير العالمي،
واختبار لتكنولوجيا ادّعت أنها جاءت لخدمة الإنسان،
فإذا بها تحرقه بصواريخ ذكية،
وقنابل دقيقة،
وأسلحة تُدار من آلاف الكيلومترات.
في الماضي،
كانت الحروب تُمارَس بأساليب بدائية،
وكانت الكارثة محلية…
أما اليوم،
فالدمار شامل،
والسلاح متطوّر وفتّاك،
والأكاذيب تنتشر أسرع من القذائف.
وقد ذكّرنا المفكّر فرانز فانون بأن:
“كل جيل يجب أن يكتشف مهمته،
ويُنجزها أو يخونها.”
ما يحدث في غزّة ليس مجرد إبادة،
بل تحوّل خطير في التوازن العالمي،
وشرارة ستدفع الأمم إلى إعادة التفكير في مفاهيم الأمن،
إلى التسلّح،
إلى صنع القنابل بدل الخبز،
إلى تحصين الجيوش بدل المدارس.
كما قال أينشتاين أيضًا:
“السلام لا يمكن الحفاظ عليه بالقوة،
لا يمكن تحقيقه إلا بالتفاهم.”
غزّة ستُحرّك الكيانات النائمة،
ستكسر وهم “العالم الحر”،
وستُعيد توزيع الخوف والعداء على الخارطة.
وكما سبقت الحرب العالمية الأولى سقوط الإمبراطوريات،
وكما مهّدت الثانية لصعود النظام الدولي الجديد،
فإن ما يحدث في غزّة اليوم
قد يُمهد لسقوط هذا النظام ذاته —
الذي يتغنّى بالإنسانية،
ويبيع القنابل لقتله.
غزّة ليست مجرد قضية…
إنها بوصلة القيم،
ومن يضلّ فيها،
يضلّ في كل شيء.
* الصورة من freepik لاغراض توضيحية فقط
46 مشاهدة
02 يونيو, 2025
37 مشاهدة
02 يونيو, 2025
6 مشاهدة
02 يونيو, 2025