د. علي ضاهر
في كيبيك، لا تُقاس الأَزمات بماهيَّة أَسبابها، بل بمن يمكنهم إلقاء اللوم عليه. هنا يبرز خطاب بول سان بيير بلاموندون، رئيس الحزب الكيبيكي، كأحد أكثر الخطابات إثارة للقلق. فالهجرة، في نظر بلاموندون ، ليست ظاهرة مركّبة ومساعِدة بل فزّاعة. هو لا يبحث في المهاجر عن مُعين بل عن بعبع مخيف. إن المهاجر، بالنسبة له، ليس فردًا يساهم في المجتمع، بل كائن يُستدعى، عند الحاجة، لتفسير كل خلل: من أَزمة الهوية إلى اختناق شبكة المواصلات. لا يكتفي بمناقشة ملف الهجرة، بل يقدّمه كتهديد لمستقبل كيبيك.
في احدى تصريحاته لا يتعامل بلامندون مع تصاعد العنف في صفوف الشباب كقضية للنقاش، بل كفيلم رعب، لا يلعب فيه المهاجر دور الممرض أو المعلّم أو العامل او سائق سيارة الاجرة، بل كمصدر مباشر لانعدام الأمن وإثارة الاضطرابات. وهذا الربط المبسّط يتجاهل الأسباب البنيوية التي تقف خلف العنف، من فقر وتهميش وبطالة إلى سياسات تربوية متعثّرة وتفاوت اجتماعي صارخ. لكنه ربطٌ يمنح بلاموندون، كزعيم معارض، فرصة لتوجيه الاتهام دون تحمّل تبعاته، ويحوّل المهاجر إلى كبش فداء جاهز لتحمّل أعباء أزمة متعددة الأوجه. أما الأسباب الحقيقية؟ فهي، على ما يبدو، خارج نطاق اهتمام خطابه السياسي.
وفي تصريح آخر لا يقل إثارة عن سابقه، حذّر بلاموندون من "أزمة اجتماعية غير مسبوقة" تهدد كيبيك، محمّلًا المهاجرين مسؤولية أزمة ثلاثية الأبعاد: الهوية، اللغة، والخدمات. وكأن المهاجر، بمجرد دخوله الى كيبيك، يتحوّل تلقائيًّا إلى مصدر لكل اختلالات المجتمع، رغم أن الواقع يُظهر أنه غالبًا ما يكون جزء من الحل لا المشكلة. ولإضفاء مصداقية على خطابه، يغرق بلاموندون المتلقي بسيل من الأرقام المقتطعة من سياقها، مستخدمًا إياها كأدوات تخويف أكثر منها مؤشرات تحليلية. يقول مثلًا إن المقاطعة تجاوزت عتبة 64,600 مهاجر دائم سنويًا، معتبرًا ذلك "انتهاكًا واضحًا للوعود الانتخابية"، ثم يرشق المستمع برقم آخر: 466,000 مهاجر مؤقت. رقم ضخم يُستخدم لإثارة القلق، رغم أنه لا يعكس بدقة احتياجات سوق العمل أو يعطل ديناميكيات الإدماج، إذا ما نُظر إليه بتمعّن.
بلاموندون لا يكتفي بإيراد الأرقام، بل يتقمّص دور الخبير الاقتصادي والاجتماعي، مقترحًا تخفيضًا كبيرًا في أعداد المهاجرين، ومطالبًا بمنح كيبيك السيادة الكاملة على سياسات الهجرة، في انتظار أن تصبح دولة مستقلة. اقتراح يبدو مغريًا لأنصار الانفصال، ولمن يعيشون في ظروف اقتصادية هشّة ويبحثون عن تغيير. وفي ذروة تصريحه، يتّهم حكومة كندا بالسعي إلى "إغراق كيبيك والمتحدثين بالفرنسية" في بحر من المهاجرين غير الناطقين بلغة لافونتين.
خطاب بلاموندون العام، يدفع إلى تصنيفه ضمن إنتاج ثنائية "نحن" مقابل "هم"، بما تحمله من مخاطر على تماسك المجتمع. لا يتردد في تحويل ملف الهجرة إلى فزّاعة انتخابية، يوظّفها في سياق دعوته لانفصال كيبيك عن كندا، كونه من أبرز المدافعين عن هذا الخيار، بل يواصل التأكيد على استعداده لإجراء استفتاء بشأن الانفصال، مستثمرًا خطاب الهوية المهددة لتعبئة الرأي العام. ورغم أنه لا يهاجم المسلمين بشكل مباشر عند حديثه عن الاستقلال، إلّا أن مواقفه الأخيرة، ومنها دعوته لمنع طلاب المدارس الابتدائية من ارتداء الحجاب، تثير القلق بشأن مستقبلهم في كيبيك المستقلة التي يتصورها هو وحزبه. لذا ومع تصاعد حظوظه وحظوظ حزبه في الوصول إلى السلطة خلال الانتخابات النيابية المقبلة، المقررة في أكتوبر 2026، يصبح من الضروري طرح تساؤلات جدّية حول طبيعة المشروع السياسي الذي يُقدَّم، وموقع المهاجرين والمسلمين فيه. فإذا استمر خطابه السياسي على ما هو عليه، فعلى المسلمين أن يستعدّوا لمواجهة تحديات تتجاوز الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، لتشمل أيضًا التصدي لخطاب يتّجه نحو تحميلهم مسؤولية أزمات لا علاقة لهم بها. فالمهاجر المسلم بات، شاء أم أبى، في عين العاصفة، مستهدفًا بخطاب يُهيّئه لتلقّي الضربات، سواء كانت مبرّرة أم لا.
انه خطاب يُحوّل المهاجر، ولا سيما المسلم، إلى شماعة تُعلّق عليها كل مشاكل المقاطعة: من أزمة السكن، إلى ضعف مستوى اللغة الفرنسية، مرورًا بانعدام الأمن، واختناق شبكة المواصلات، وارتفاع الإيجارات، وصولًا إلى ارتباك الميزانية وشحّ المساعدات للذين لا مأوى لهم. وهي قضايا مرشّحة لأن تكون في صلب الانتخابات المقبلة، التي تُعدّ محطة مفصلية في تاريخ كيبيك. لذلك، فمشاركة المهاجر، وخصوصًا المسلم، فيها لم تعد خيارًا أو ترفًا، بل ضرورة سياسية ووجودية. إنها دعوة للانخراط الفاعل، إذ لا مجال للوقوف على التل والمراقبة بسلبية. فالمعادلة واضحة: كلما تفاقمت الأزمات، كان المهاجر، وخصوصًا المسلم، أول من يدفع الثمن.
87 مشاهدة
27 سبتمبر, 2025
90 مشاهدة
27 سبتمبر, 2025
647 مشاهدة
24 سبتمبر, 2025