Sadaonline

كل شيء منك جميل.. وحسن!

رحل بعد أن أتم فصوله الأربعة، كان يخاف ميتة عادية لا تليق به، يدخل القرى بثياب الاحرام

طلال طه ـ مونتريال

كنا أمة ممنوعة من المستقبل، وشعب ممنوع من الغد صباحا، نلملم ما تبعثر من البؤس والفقر والسجون، نحمل في ذاكرتنا البدائية هزائمنا القديمة.. وجاء حسن!

أحرق خلفه المراكب القديمة، وحطم الجسور مع الأندلس، ومسح عن الجدران بيانات القمم العربية، شعارات شاخت ثم باخت، ثم جاء بالناس الطيبين، وأقنعهم بأن القدس حق، وأكد عليهم أن شروط الإمكان هو الوقوع.. وشروط النصر أن يقفل العابرون خلفهم بوابة فاطمة ويرحلون!

أعاد للنص الديني ألقه، وللكلمة رونقها، اختار أجمل مفردات اللغة ليزين بها ذاكرتنا، وليقول لنا جملة سياسية مفيدة: كما وعدتكم بالنصر!

اجتهد في سنواته الأخيرة في العمل على تنويع مصادر السلاح والجراح، والسلام والكلام، والفخر والنصر.. ثم توزعت الأسماء في القرى، وضجت بها الجبال والانهار والأشجار، وتنزلت الملائكة حتى مطلع الفجر!

كان مائدة الفقراء، ومحط تعبهم، تصالح مع تعاليم السماء، كان خيرا لا يتعب، يؤرق كسلنا، وتخلينا عن مراجعة دروسنا وفروضنا اليومية، وفي رأس القائمة.. فلسطين!

كان يقسم ابتسامته الى نصفين، نصف لنا، ونصف آخر لجيل آت، لجيل سيأتي، وسوف نتشاوف عليه بأننا الجيل الذي عاش هذا الرجل بكل ما يمكن أن يعيش أنسان حياتا!

كان مفردا لا يليق به البقاء طويلا، لقد اسرف خلال ستين سنة أو يزيد في تهجئة الواقع وإعادة ترجمته بلغة الحياة: كل ما حكم بع العقل حكم به الشرع!

كان في صندوقه الأسود من الأسرار ما يعبد فيه آلاف الطرق الى السماء، نافذته مفتوحة على احتمالات نصر لا ينطفئ، واحتمالات ضوء لا ينكسر، وكان يعرف من سبل الغيب مقدار ما يعرف عن خطوط القلب على حدود فلسطين!

كان يوزع الأمن والطمأنينة على القلوب القلقة، والنفوس الحائرة، والخطوات الضالة.. كان مثل وعد بالجنة!

* * * * * * *

وكانت بيروت مدينة تراود فتاها عن نفسه، تصنع له من الطين كهيئة الطير، وتنصب له منبرا في سوق الإثنين في النبطية يخطب بالناس: أن من لحق بنا استشهد.. وأن إذا نودي الى الصلاة فاسعوا الى ذكر الله.. وأن إذا قضيت، فانتشروا في الأرض!

لم يكن السيد ليفسد وضوءه بالحديث الى التافهين أو عنهم أو معهم، إذ كان سهما انطلق من القرن الأول للهجرة وحط في الضاحية، يزرع نخلات صغيرة لتستقيم أشجارا على بوابات الجنوب!

رحل بعد أن أتم فصوله الأربعة، لم يكن يخاف الموت، كان يخاف ميتة عادية لا تليق به، يدخل القرى بثياب الاحرام، ثم يسعى بين الخيام وبنت جبيل، ويطوف حول عيترون ويرجم الشيطان على بوابة فاطمة، ويتم مناسكه في المدينة الرياضية.. هذا حسن!

لم يترك لنا فرصة ومتسع من الوقت للوداع، ما بين شهادته وتشييعه، ثم ذكراه السنوية الأولى، بضع أشهر بخيلة، لم يكن لنا الوقت الكافي لاستدرار الدمع من تجاويف الروح، وقد التزمت أمة عن باكرها بطقوس البكاء وشعائر الحزن الممتد من كربلاء!..

وإذا كانت السياسة هي فن بيع الأمل كما يقول نابوليون، فإن السياسة لدى السيد هي فن صناعة الأمل وإعادة تدويره ليصلح لكل زمان ومكان.. وفلسطين، إذ كان المسافة بين الفكرة والطلقة!

لقد حصل على حصته الكافية من الحياة، ليغادرنا بشروطه، ولطالما عاش بشرطها وشروطها، وكان منها شرطه الإنساني المتفوق والنبيل!

* * * *  * * *

هلا احتفلت بيوم الأرض يا حسن.. هلا سألت عن سر الأرض!

للأرض رائحة لا يخطؤها الفلاحون، ودروب في صدر الجبل حفرتها دواب التاريخ، لا تخطؤها أقدام التيه، فالأرض تتنفس في الشرق من خير بر، تحبل كالأنثى.. ولادة!

تحتفل بشجر الزيتون قرونا، وبشجر الليمون فنونا، توزع بالعدل حصصا على فقراء الفلاحين، تزهر في كل صباح أفراح شتى، يتوزعها الصبية وصغار الكسبة، يسعون خلف رغيف صعب، مجبول بتراب الأرض وشيئا من بذر الكمون!

تلك الأرض نعرفها، تتزين لعريس العمر، تتعرى أمام الحرث، وتتلهى بالخصب مواسما وأطفالا وحجارة، وأسرى وطلاب مدارس، وشهداء.. وحسن!

*  * * * * * *

آمنت أخيرا بأن للموت ذوق رفيع، يختار الأجمل والأفضل والأنبل من بيننا.. لقد اختارك يا حسن!

كنا قد وعدناك: حين تنتهي الحرب، سوف نعقد عرسا جماعيا للبكاء، حضر آل العريس والعروس والمنشدون والحداء.. وغاب البكاء!

إن حزني كشلال دمع ودم، لا يمكن أن أتقاسمه مع أحد، لو أردت توزيعه على الناس بالعدل، لنال كلا منهم نصيبه من الفرح والفرج والسكون: كل شيء فيك ومنك جميل.. وحسن!

أقول: لدي بعض الأفكار للحزن، ولدى الناس كثير من الخبز، لا ضجيج في حضرة الحزن.. لا ضجيج بين يدي حسن!

كانت الأمنيات شهية على الضفتين، وكانت نوافذ الروح مشرعة الى الفضاء، وكانت رصاصة مدخرة الى أجل جميل!

وكان علي (ع) يفر من قضاء الله الى قدره.. ثم أجيال بعيدة في التاريخ، وأجيال طارئة تلتحق بقدرها.. ثم حسن!

وأخيرا.. ثم رواية أحتفظ بها في جدار أراد أن ينقض، وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما، تصالحت مع غيابك - كنزا، أخذت مسافة من الحزن، وقفت جانب الجدار القبلي للحرم، من خلفي العباس (ع)، في حضرة الحسين (ع).. ثم بكيت!

كانت دموع عبادة، والعبادة في وقتها، يقال أداء، والعبادة متأخرة عن وقتها تسمى قضاء، ولا قضاء الا بدليل.. ولم يكن لدي دليل لتأجيل الدموع.. وهذه عثرة مني يا حسن، أنت عذابها الجميل!

لقد كان لك في القلب دائما زاوية - وستبقى - يستقر فيها الغياب والتعب، لتبقى سيرتك حافزا للحضور والحياة والانجاز!

ستون سنة أو تزيد، مررت سريعا على حافة هذا الكوكب، فالموت له ذوق رفيع، يختار الأجمل والأفضل والأنبل من بيننا!

السيد اليوم شهيدا! متى لم يكن السيد حسن شهيدا!

* * * * * * *

في رواية عن الشيخ الطوسي: في الحديث عن الإمام موسى ابن جعفر (ع) مخاطبا أحد أصحابه: يا صفوان.. كل شيء منك جميل وحسن!