دارين حوماني ـ مونتريال
تقف الفنانة التشكيلية العراقية أمل الركابي كشاهدة على تحولات الزمن والهوية من العراق إلى الإمارات، ومن عمّان إلى مونتريال. لم تكن رحلتها الفنية خطًا مستقيمًا، بل مسارًا يحمل في طيّاته التحدي والإصرار
على الفن التشكيلي فبرزت أعمالها بين أروقة المعارض التي خطّت فيها بالألوان ذاكرة وطنها، ووجدان فنانة لم تتخلّ عن شغفها الأول، الرسم.
في هذا الحوار، الذي أُجري معها في مونتريال، نستعيد مع أمل الركابي مسيرتها الطويلة مع الفن التشكيلي وصولًا إلى مونتريال التي منحتها الاستقرار ومساحة للتعبير الفني. تتحدث الركابي عن تجربتها في الدمج بين الرسم والشعر، وعن حضور العراق في لوحاتها كحالة وجدانية تتجاوز الحنين، كما تناقش تحديات الفن التقليدي
في ظل الذكاء الاصطناعي، ومحدودية سوق الفن العربي في كندا. إنه حوار مع ذاكرة فنانة تشكّلت بين هجرات متعددة، لكنها تصرّ على أن تحفظ ألوان البلاد في أزمنة الرماد، وأن تعبّر عن الذاكرة العراقية محاولة بثّ الأمل عبر الفن.
درست أمل الركابي المحاسبة وعملت في عدد من المصارف في العراق والإمارات، مستلمة مهامًا إدارية، ولكن ذلك لم يحل بينها وبين هوايتها وشغفها بالرسم فدرسته على يد اختصاصيين محترفين في الإمارات، ما دفع إحدى الصحف الكويتية لإجراء مقابلة معها وعنونتها "سيدة الأرقام جعلت من الحلم حقيقة".
شاركت الركابي في العديد من المعارض الفنية في الإمارات والأردن وكندا، وأقامت أول معرض شخصي لها عام 1985 في فندق الشيراتون بأبو ظبي. وفي عام 1987، شاركت مع مجموعة من الفنانين العرب من بينهم الفنان الفلسطيني ناجي العلي في معرض تشكيلي بالشارقة. كما عرضت أعمالها في معارض بارزة منها "الفن التشكيلي والفن الفولكلوري" في مونتريال، ومعارض اتحاد الفنانين العراقيين الكنديين بمشاركة فنانين من مختلف أنحاء كندا.
حظيت أعمالها باهتمام الصحف والمجلات المحلية الكندية، وأجريت معها مقابلات إعلامية، كما تناولت قنوات مثل CBC وCTV تجربتها الفنية. في كندا، نشطت الركابي في العمل الثقافي والمجتمعي، فأسست "جمعية المرأة العراقية الكندية" في مونتريال، وساهمت في تأسيس "جمعية ليفانت"، وشاركت في جميع فعالياتها الفنية والثقافية. كما كانت من الأعضاء المؤسسين في اتحاد الفنانين العراقيين الكنديين، وشغلت منصب نائبة رئيس مجلس إدارة مركز الجالية العراقية في مونتريال سابقًا. كما شاركت في تنظيم فعاليات ثقافية متعددة، من بينها أمسيات موسيقية وشعرية.
نالت الركابي عددًا من الجوائز والتكريمات، من بينها جائزة "الاستحقاق الفني" من جمعية ليفانت، و"شهادة إنجاز" من مركز الجالية العراقية في مونتريال، وتم ترشيحها لجائزة "سفراء العرب" في أوتاوا عام 2013 مع أربعماية شخصية كندية من أصول عربية من قبل "مجلس السفراء العرب" في أوتاوا تثمينًا لإنجازاتهم في مجالات عديدة في كندا، كما نالت عدة شهادات تقدير من مؤسسات ثقافية وفنية في كندا والإمارات.
كل لوحة من لوحاتها هي شاهد على تاريخ ما من العراق، على تراثه، مدنه، وناسه، وثرواته، نشعر أن قلب أمل الركابي موجود أيضًا في اللوحة، إنها أعمال تحكي حكايات قد لا يكون لها إعادة، وهي بذلك تخلّد العراق على طريقتها. كل لون تضعه أمل الركابي في اللوحة له رمزيته ودلالته التي تعبّر عن الألم، الموت، وما يُحاط للعراق، وفي مقابل ذلك تدسّ في اللوحة ألوان الأزرق والأخضر والأصفر والأبيض بتدرّجات لونية توحي بالأمل والفرح والخصوبة والحياة المتجددة للعراق.
التقينا أمل الركابي في بيتها الذي هو بمثابة متحف، بل ذاكرة كاملة عن العراق، هنا "تاريخ العراق"، وهنا صرخة العراقيين في "الصرخة"، وهنا أشعار "الخياميات" ومظفر النواب، وهناك عراقيات يرقصن في "الزهور ترقص"، وهنا "الجالغي البغدادي"، وهناك مسجد وكنيسة وكنيس في "سلامًا وأمانًا"، لوحات صافية مشغولة بالحرير، وعراقيون بسيطون طيبون في "القهوة الشعبية"، والكثير الكثير، دون أن ننسى "لوحة العراق بعين من يحب العراق" التي تلخّص روح أمل الركابي، إذ تقول عن لوحتها هذه:
"العراق بشمالهِ ووسطهِ وجنوبهِ
كما هو حيٌ دائمًا في مخيلتنا
غادرنا العراق بأبداننا ولم نغادره بحنيننا له وخيالنا
نحزن إن أصابهُ سوءٌ ونفرحُ لكل ما يفرحهُ"..
لوحة "العراق بعين من يحب العراق"
هنا الحوار معها.
لفتني أنكِ بدأتِ مسيرتك المهنية في مجال البنوك، لكن دعينا نعود إلى البدايات. متى شعرتِ لأول مرة أنكِ تريدين أن تكوني فنانة تشكيلية؟
منذ المرحلة المتوسطة، وربما حتى الثانوية، كنت أُحب الرسم بشدة. كانت معلمتنا في المدرسة آنذاك الفنانة وداد الأورفلي، والتي أصبحت فيما بعد فنانة مشهورة. درستنا مادة الرسم، وأقامت لنا معرضًا فنيًا داخل المدرسة، وشاركت فيه، وما زلت أحتفظ بصورة لي وأنا أقف أمام لوحاتي. أعتقد أن عمري آنذاك كان حوالي 13 أو 14 عامًا. من ذلك الوقت بدأت علاقتي الجدية بالرسم.
بعد المدرسة، التحقتُ بالمعهد الفني في الأكاديمية، وكنتُ حريصة على الاستمرار في دراسة الفن. لكن الأكاديمية كانت مسائية، وبعيدة جدًا عن بيتنا. كنت أعود في ساعات متأخرة، وكانت الدروس تبدأ من الرابعة عصرًا حتى السابعة مساءً. كنت فتاة شابة قد أنهت المرحلة الثانوية للتو، والأكاديمية كانت تشمل اختصاصات مختلفة: فنون، موسيقى، غناء… وكانت القاعات موزعة، ولكل نوع من الفنون صف خاص.
والدي كان مثقفًا ومتفهّمًا، لكنه لم يتقبل فكرة وجودي في بيئة مختلطة وغير مألوفة بالنسبة له. كنت أروي له ما أراه هناك من أنشطة وأشخاص، لكنه لم يرتح للفكرة، خصوصًا بعد أول أسبوعين حين بدأتُ بدراسة السيراميك. قال لي: "لا تبقي في هذا الفرع". فتركت المعهد، وانتقلت إلى معهد المحاسبة، ثم أكملت في كلية التجارة، وبدأت أعمل في البنوك.
كيف عدتِ إلى الرسم؟
لم أنقطع تمامًا. واصلت الرسم في بيت أهلي، لكن بعد الزواج أصبح من الصعب التفرغ، خصوصًا مع عملي ودراستي ومسؤولياتي الأسرية. بعد انتقالنا إلى الإمارات، شجعني زوجي هذيم كثيرًا على العودة إلى دراسة الفن في المساء. كنت أعمل في البنك، ولدي أولاد، وسمعتُ أن سيدة إيطالية تُدرّس الرسم في المساء في المدرسة الأميركية. أخذني هذيم إليها وكان يشجعني جدًا.
تلك المعلمة الإيطالية كانت تُدرّس الرسم الزيتي، والرسم على الخشب. ما زلت أحتفظ بلوحات صنعتها آنذاك. كما علمتنا تقنيات جديدة في الرسم على ورق الترايس فيبر، وأعطتنا لائحة مفصلة بالألوان: درجات الأحمر، الأصفر، الأخضر، والطريقة الصحيحة لدمج الألوان. ما زلت أستخدم حتى اليوم الألوان التي أوصتنا بشرائها. كانت طريقة تعليمها مختلفة جدًا، علمتني الأساس الفني الحقيقي.
بعد فترة بدأت أتعلّم على يد فنانة فرنسية درّست الرسم على الحرير. كانت دروسها ثلاث مراحل في النهار، وتحظى بإقبال من النساء العراقيات، اللبنانيات، السوريات وغيرهن. كنت أعمل مديرة في بنك ولدي أولاد، فكنت أُنهي عملي في البنك عند الثانية والنصف، وأذهب مباشرة إلى درس الرسم. كان لدينا في البيت سيدات يساعدن في الأمور المنزلية، وهذا ساعدني على تخصيص وقت للدراسة.
ومتى بدأتِ بعرض أعمالك؟
المعلمة الفرنسية كانت تنوي السفر، فقالت لي: "أمل، أعتقد أنكِ ستكونين خلفي في هذا المجال". شجعتني على الاستمرار. بعد سفرها أقمتُ أول معرض فني في الإمارات، وكان بدعم من صديق عراقي يُدعى عصام شريده، يقيم حاليًا في تورونتو. زارني في البيت، ورأى لوحاتي، وقال لي: "أمل، يجب أن تقيمي معرضًا". وهكذا كان، نظّمت معرضًا شخصيًا في فندق الشيراتون، وكان ناجحًا جدًا، وبعتُ فيه معظم اللوحات.
ما الظروف التي دفعتك لاتخاذ قرار الهجرة من العراق؟
لم تكن هناك ظروف قاهرة أجبرتنا على مغادرة العراق. انتقلنا إلى الإمارات عام 1976 بعد أن حصلنا على فرصة للعمل، أنا وزوجي، في البنوك. كنا نزور العراق حتى عام 1989. لكن بعد حرب الخليج، انتقلنا إلى الأردن وبقينا هناك حتى العام 1996.
في العراق، لم نكن منخرطين في السياسة، لكن الجو العام في العراق وفي دول عربية كثيرة كان مخابراتيًا مرعبًا، بحيث لا نعرف من يجلس إلى جانبناك، وكيف يقوم بتأويل الحديث، وما الذي قد يُبلّغه عنا. لذلك، فضّلنا البقاء بعيدًا.
في الأردن تفرّغت للرسم، رسمت كثيرًا. لم أكن أرسم من أجل المعارض أو البيع، بل لأنني أحب الرسم. في الإمارات بعت العديد من الأعمال، لكن بعدها لم أعد أبيع. في الأردن شاركت أيضًا بعدة معارض.
متى استقررتِ في مونتريال؟ وكيف بدأتِ نشاطك الفني في كندا؟
جئت إلى مونتريال عام 1996. منحتني المدينة الهدوء والطمأنينة. كان أول معرض تشكيلي عراقي أشارك فيه في مونتريال عام 1999، وكان ضمن مهرجان عراقي كبير. رسمت فيه لوحتين: واحدة عن كربلاء وأخرى عن الجالغي البغدادي. بعدها، في العام 2000، دُعيت للمشاركة في معرض أقيم بجامعة UQAM، لكن القاعات الكبيرة خُصصت للأعمال التجارية، وكان ناهد كوسه ونسب شعيا وعطاف العظمة وغيرهم من الفنانين مشاركون، لم تُعرض لوحاتنا في القاعة الرئيسية فانسحبنا. في اليوم التالي، اتصل بي ناهد وقال: "نحن بصدد إنشاء تجمع فني عربي، ونريدك معنا؟" وافقت فورًا، ومنذ ذلك الوقت بدأنا تنظيم معارض فنية مرتين في السنة، في متحف Sainte-Croix، الذي كان في السابق كنيسة.
توقف نشاطنا السنوي في المعرض بسبب جائحة كورونا، عدنا العام الماضي بأول معرض بعد كورونا، وكان في المركز الثقافي الإيطالي. شارك فيه فنانون من الجالية العربية ومن الكنديين الكيبكيين. لكن المعارض الأصلية كانت تُقام في Sainte-Croix، ذلك المبنى العريق الذي كان كنيسة وتحول إلى متحف.
لوحة تاريخ العراق
ماذا منحتك مونتريال كفنانة، وماذا سلبت منك؟ حين ابتعدتِ عن أجواء العالم العربي، هل شعرتِ بأنكِ خسرتِ شيئًا؟ وهل فكرتِ لاحقًا بالمشاركة في معارض هناك؟
في الحقيقة، لم أشعر بالخسارة الكبيرة، لأنني في مونتريال التقيتُ بالجالية العربية والعراقية، فبقيت على تماس دائم مع مجتمعي الثقافي، ولم أشعر بأنني ابتعدت تمامًا عن جذوري. أما الإمارات، فلا أفكر إطلاقًا في تنظيم معرض هناك. عشت فيها نحو 15 عامًا حياة مريحة، لكنني خرجت منها في ظروف لم تكن مُرضية، خاصة بعد حرب الخليج، حين لم يكن وضع العراقيين جيدًا. أما الأردن، فلا زلت أزورها كل سنتين لأن لديّ سكنًا هناك، وأحب الأجواء، وإن كنت لم أقم معارض كثيرة فيها. شاركت في بعض الأنشطة، لكن الثقل الحقيقي لنشاطي الفني كان وما زال في مونتريال.
هل واجهتِ صعوبات في الاندماج مع الوسط الفني الكندي أو الكيبيكي؟ وكيف تعاملتِ مع الفروقات الثقافية والبصرية في هذا الفضاء الجديد؟
شاركت في العديد من المعارض إلى جانب فنانين كنديين، وكان هناك اهتمام كبير من قبلهم بأعمالنا. كانوا يسألون ويطلبون منا شرح رمزية بعض اللوحات. مثلًا، قامت محطة CTV الكندية بإجراء مقابلة معي، وكذلك جهات بلدية، لكنني لم أشعر باندماج عميق بسبب حاجز اللغة. أنا أتقن الإنكليزية، لكنني لا أجيد الفرنسية، وهذا كان له تأثير في مدى التواصل.
لوحاتكِ حافلة بصور العراق. هل هذه استعادة للمكان بوصفه حنينًا؟ أم أنها محاولة للمقاومة ضد النسيان؟
العراق يسكنني. حياتي، بيتي، حتى طعامي… كل شيء يرتبط بالعراق. لم أزر العراق منذ أكثر من خمسة وثلاثين عامًا، لكنني أراه في ذاكرتي، في الشوارع، في التفاصيل. رسمت لوحة عن الموصل بعد فاجعة المدينة، كانت تعبيرًا عن الأمل بعودتها، والحمد لله، الموصل بدأت تستعيد عافيتها. نحن من بغداد، ووالدي من الجنوب، لكننا عشنا في محافظات مختلفة. العراق ليس فقط وطنًا في الذاكرة، بل هو مصدر إلهامي الدائم في الفن.
أرسم ما بقي في ذاكرتي من مشاهد العراق. لا أنقلها عن فنان آخر، بل من إحساسي. مثلًا، مشهد "الجندي المجهول" الذي صممه معماري عراقي وتم هدمه لاحقًا، هو حاضر في إحدى لوحاتي، لكنني أضفت عليه عناصر من خيالي الخاص. كل عمل فني عندي يحمل مشاعر لا تُستمد من أحد.
في ممارستكِ الفنية، إلى أي مدرسة تشكيلية تشعرين أنكِ تنتمين؟ وما اللوحات الأقرب إلى قلبك؟
أعمالي ليست عشوائية، وليست سوريالية. أقرب ما تكون إلى الواقعية التعبيرية. الخيال يُحرّكني، لكنه دائمًا محكوم بتجربة واقعية أو إحساس داخلي. من بين اللوحات القريبة جدًا إلى قلبي، لوحات "الخياميات" ولوحات عراقية مثل لوحة "شارع البغدادي". الأشخاص الظاهرون فيها هم بالفعل أفراد الفرقة الموسيقية التي كانت تظهر على شاشة التلفزيون العراقي، وأنا أعرفهم وأعرف أسماءهم. كما لديّ أعمال دمجت فيها الرسم مع الشعر الشعبي، من ضمنها قصائد للشاعر مظفر النواب وغيرهم.
أنتِ حاضرة في المشهد الثقافي العربي في مونتريال، خاصة ضمن تجمعات فنية وأدبية. هل هذا الحضور هو تكريس لجو ثقافي عربي في المدينة، أم أنه تعبير عن انتماء وتخفيف من شعور المنفى؟
في مونتريال لا أشعر بأنني في منفى. نحب أنا وزوجي الجلسات الثقافية والمحاضرات، لذلك كنا نحضر معًا هذه الفعاليات باستمرار. وشاركنا في تنظيم أمسيات ثقافية في أوقات سابقة. الأشخاص الذين نلتقي بهم مثقفون، والنقاشات التي تُطرح غنية وذات بعد ثقافي وفكري. هناك التصاق واضح بالجو الثقافي العربي، وهذا يُبقيك دائمًا قريبًا من جذورك.
مع التطور التكنولوجي وظهور الفنون الرقمية والذكاء الاصطناعي، هل تعتقدين أن الفن التقليدي مُهدد؟ أم أن الروح الإنسانية لا يمكن استبدالها؟
لا، لا أعتقد أن الفن التقليدي مهدد. الذكاء الاصطناعي قد يُقلد اللوحات أو يُنتج شيئًا بصريًا، لكن لا يمكن أن يصل إلى إحساس الفنان الحقيقي. الرسم اليدوي، خصوصًا بالألوان الزيتية، يحمل بُعدًا حيًا وإنسانيًا لا يمكن مقارنته بالرسم الرقمي. على سبيل المثال، حين أرسم لوحة زيتية مستوحاة من صورة فوتوغرافية، أُضفي عليها شيئًا شخصيًا يجعلها مختلفة تمامًا. اللوحة المرسومة باليد تظل ملموسة وباقية، بينما ما يُنتَج على الحاسوب قد يختفي فجأة إذا انقطعت الكهرباء أو حدث عطل. الفن التقليدي يُمسَك ويُعاش، بينما الرقمي زائل.
كيف ترين العراق اليوم؟ وهل تتابعين الحركة التشكيلية هناك؟
نعم، أتابع كثيرًا. هناك نهضة فنية تشكيلية كبيرة في العراق. تقام معارض متعددة، والفنانون العراقيون ينشطون سواء داخل البلاد أو في الخارج، ويأخذون أعمالهم معهم ليعرضوها في بغداد والبصرة ومدن أخرى. لديّ تواصل مع عدد من الفنانين العراقيين عبر "فيسبوك"، نتبادل التحيات والتشجيع. أتابع أعمالهم، وهم أيضًا يتابعون أعمالي ويشكرونني على ما أقدّمه.
العراق مرّ بتحولات مأساوية: الاحتلال الأميركي، سنوات داعش، الطائفية، والحصار الاقتصادي. كيف انعكست هذه التجارب على الفن التشكيلي العراقي؟ وهل ساهمت في خلق خطاب بصري جديد؟
رغم كل ما مرّ به العراق، لم يتوقف الفن. في فترات القمع والحصار، كان هناك فن، لكنه غير ظاهر إعلاميًا. كانت الظروف المادية صعبة جدًا؛ لم تكن هناك ألوان متوفرة، ولم يكن بالإمكان استيراد المواد الفنية. ومع ذلك، كان الفنانون العراقيون يصنعون الألوان بأنفسهم، ويبتكرون الخامات التي يرسمون عليها. صحيح أن الحصار أثّر على جودة المواد، لكنه لم يُثنِ الفنانين عن الإبداع. بل على العكس، استمروا، وكان الإصرار أقوى من الظروف.
من هم الفنانون الذين ظلّوا يشكّلون لكِ مرجعية داخلية رغم غيابهم؟ وهل كان لهم أثر في تكوينك البصري أو في بلورة هويتك الفنية؟
في الحقيقة، لا. لا أحب أن أدّعي ما ليس في داخلي. لم أتأثر بفنان معين، لا عراقي ولا عالمي. ما أرسمه نابع من داخلي، من مشاعري وتجربتي. أبدأ اللوحة بفكرة، لكنني أجد نفسي أحيانًا أنتهي إلى فكرة مختلفة تمامًا، كأن الفرشاة تُرشدني خلال العمل. الشيء الوحيد الذي يمكنني القول إنني أحببته وتأثرت به فن "الخياميات"، وهو فن عالمي، وقد رسمته كثيرًا على الحرير، لأنني أحببته فعلًا. الرسم على الحرير كان في فترة من الفترات موضة كبيرة، وخصوصًا بين النساء، لكن قليل من استطاع تطويره تقنيًا، لأنه فن صعب ودقيق جدًا، خصوصًا في التحكم بالألوان المائية ومنع تسربها من نسيج الحرير.
قلتِ إنكِ جمعتِ بين اللوحة والقصيدة، وهي تجربة نادرة في الفن العربي. حدثينا عن ذلك.
نعم، أنا شغوفة بدمج الشعر بالرسم. تأثرتُ منذ شبابي بشعر مظفر النواب، واشتغلت على عدد من لوحاته الشعرية. من أشهر ما رسمتُ كانت لوحة مستوحاة من قصيدة "الريل وحمد"، مطلعها "مرينا بيكم حمد"، وهي قصيدة شعبية معروفة، تتحدث عن فتاة تحب شابًا يُدعى "حمد"، وتصر على أن هواها له وحده، تقول: "هودر هواكم ولك حدر السنابل". رسمت هذا المشهد: جسد الفتاة، السنابل، الحمام، التفاصيل كلها ترجمتها إلى لوحة تحمل هذه الروح الشعبية والشاعرية في آن.
كما اشتغلت على لوحات أخرى استلهمتها من قصائد مغنّاة، مثل أغنية كاظم الساهر "بغداد لا تتألمي". القصيدة رسمتها بالكامل، لأن الشعر، كما قلت، موجود في لوحاتي. عندي أيضًا أعمال عن بغداد القديمة، عن القهوة الشعبية، عن الحياة المشتركة التي جمعت المسلمين والمسيحيين واليهود في زمنٍ منسجم لم يعد موجودًا اليوم. لا أتوقع عودة بغداد إلى ما كانت عليه، بهذه الورود وهذه القمريات التي أصوّرها في لوحاتي، لكنني أحاول تخليد ذاكرتها.
ألوانك تميل إلى الهدوء والسكينة، هل هو تعبير عن رؤيتك الجمالية، أم وسيلة لخلق توازن داخلي مع عالم مضطرب؟
دائمًا أُدخل ألوانًا مشرقة في لوحاتي، حتى لو كان الموضوع فيه حزن، مثل لوحة "الصرخة"، ولوحة "تاريخ العراق"، في هاتين اللوحتين الكثير من الألم ولكن أدخلت فيهما ألوانًا تعكس الأمل والخصوبة والحياة الجديدة.
لو عُدتِ إلى نقطة البداية، هل كنت ستختارين أن تكوني فنانة تشكيلية مجددًا؟ أم كانت الحياة ستأخذك إلى مسار مختلف؟
بالتأكيد، سأختار الرسم من جديد. كنت أتمنى أن أواصل دراسة الفنون الجميلة في المعهد. كثير من زملائي، بعد ثلاث سنوات من الدراسة، أرسلتهم الحكومة العراقية آنذاك إلى باريس، روسيا، بلغاريا، وإنجلترا لاستكمال دراساتهم العليا، وبعضهم أصبح اليوم من روّاد الفن العراقي. لولا دعم زوجي هذيم، لما استطعت الاستمرار. كنت أعمل مديرة في البنك، وأقضي الليل في الرسم حتى الفجر، ثم أصلي، وأنام قليلًا، وأذهب للعمل مجددًا. خلال تلك الفترة رسمت نحو 60 لوحة، وأقمت معرضًا شخصيًا كاملًا.
انقطعتِ عن العراق طويلًا، ألم ترغبي بإقامة معرض لك بالعراق؟
جميع لوحاتي موجودة هنا في كندا. لا أعلم ما هي الإجراءات أو التكاليف اللازمة لنقل الأعمال الفنية إلى العراق، ولم أجرّب ذلك. ربما تعتبر بعض الجهات أن اللوحات ملكية كندية، وربما يكون الشحن مكلفًا جدًا، لا أدري. في الإمارات كنت أشارك باستمرار، بل عرضت إلى جانب فنانين فلسطينيين من بينهم ناجي العلي، وكانت لدي مشاركات ومعارض عديدة وشهادات تقدير. لكن مثلًا، في إحدى المرات فُقدت لوحة لي في أحد المعارض، ولم يعرف أحد أين ذهبت. لذلك، نقل الأعمال ليس أمرًا سهلًا. لو كنت لا أزال أعيش في الإمارات أو العراق، ربما كنت أقمت المزيد من المعارض. أما الآن، فالأمر معقّد.
هل هناك اهتمام من الجالية العربية بشراء اللوحات الفنية؟
لا أظن أن هناك اهتمامًا كبيرًا. لم أرَ فنانين كثيرين يبيعون أعمالهم هنا. ربما الوضع أفضل في تورنتو، حيث توجد حركة بيع أفضل، لكن حتى هناك، فالمبيعات محدودة. نرى الآن فنانين يرسم خمس لوحات يوميًا ويبيعها، فهذا فن تجاري بحت. أما نحن، فنقضي ثلاثة أشهر أحيانًا على لوحة واحدة. هذا فرق جوهري.
هل تشعرين أنكِ لقيتِ التقدير الذي تستحقينه هنا في كندا؟
إلى حد ما، نعم. تم اختياري من قبل السفارة الجزائرية لتكريم خاص في أوتاوا، دون أن أكون على علم مسبق. كان الحفل مخصصًا لتكريم أربع شخصيات عربية من أصول كندية، وكنتُ أنا الممثلة عن العراق. كما حضر بعض معارضي شخصيات رسمية، من ضمنهم ستيفان ديون، زعيم المعارضة في البرلمان الكندي في الفترة ما بين 2006 و2008. وحصلتُ على عدد من الجوائز، وأعتز بها كثيرًا.
167 مشاهدة
24 يونيو, 2025
287 مشاهدة
05 يونيو, 2025
371 مشاهدة
18 مايو, 2025