Sadaonline

روح بلّط البحر

"بلّط البحر" تعبير تهكمي يُقال لمن يُرفض طلبه


د. علي ضاهر

 

لا شيء يبقى على حاله، ودوام الحال من المحال. قد تأتي أيام ينعم فيها الناس بزعماء لا مثيل لهم، وقد تدور الدائرة وتتحفهم بساسة "لا في العير ولا في النفير"، كناية عمن لا منزلة له بين الناس ولا قدر. وقد أوجز المثل الشعبي وصفًا لمثل هذه الأيام فقال: "إن أقبلت باض الحمام على الوتد، وإن أدبرت بال الحمار على الأسد."

 

ففي زمن يحتاج فيه لبنان إلى ساسة أقوياء، أشداء، يعملون لصالح وطنهم، رزقهم الله برجل دولة تعجز اللغة عن توصيفه. رجلٌ دخل المعترك السياسي حاملاً معه كل ما هو ثقيل، عنيد، ومثير للشفقة، تنطبق عليه أمثال شعبية عديدة، كلها مستوحاة من الجذر العربي الثلاثي "بلط". نذكر منها على سبيل التذكير لا الحصر"دمه تقيل مثل البلاطة" الذي يُقال عن شخص يتمتع بدم ثقيل وحضور لا يُطاق او"وقعت على راسه بلاطة" ويُوصف به من فقد صوابه ويتصرف بغرابة، وكأنه تلقّى ضربة على يافوخه غيّرت مسار تفكيره او "راسه يابسة مثل البلاطة" يُستعمل لوصف العنيد المتمسك برأيه، الذي لا يقبل النقاش ولا يتزحزح عن أقواله، حتى ولو كان على خطأ او "ما بيفهم إلا بالبلاطة" كناية عن البليد الذي لا يفهم إلا بالقوة والصدمة. فهل تدل هذه الأمثال الشعبية على رجل دولة لبناني دخل المعترك السياسي حديثًا؟ وهل يمكن معرفة من المقصود بها؟

 

إذا كان الجواب سلباً ولم تتضح الصورة بعد، فهذه عينة إضافية من نفس النمط ومن ذات الجذر اللغوي "بلط". يُقال مثلًا "بلّط البحر" وهو تعبير تهكمي يُقال لمن يُرفض طلبه. من مثل ذلك المسؤول الذي يصدر فرمانًا بعدم إضاءة صخرة الروشة، فلا يُستجاب لطلبه ولا يُرد عليه، بل يُقال له بسخرية "روح بلّط البحر" الذي فيه الصخرة! ثم يأتيه من ينصحه بالسكوت عن الموضوع، فيقول له: "بلّطها وسكوت" بمعنى انسَ الأمر، واقبل بالإهانة، ومشّيها، لكنه لا يسمع ويركب رأسه "الناشفة مثل البلاطة"! ولأن "رأسه يابس كالبلاطة"، لا يصغي إلا إلى "ناس البلاط" أي لا يمنح أذنه إلا لحاشيته ومن يدورون في فلكه، وهم غالبًا زمرة من المتملقين والانتهازيين. فكأنه نسي تمامًا كيف تكون الحياة في "بلاط السلطان"، تلك التي خبرها عن قرب، بما فيها من تبعية عمياء. حياة هو على دراية تامة بها، بل تكاد تكون الأقرب إليه، بما تحمله من "تكنيس البلاط"، وما تنطوي عليه من تذلل وانبطاح، حتى ولو كان الثمن شعبًا بأكمله، في سبيل رضا الجهة النافذة التي نصبته وترعاه.

 

وهكذا، حين تتكلم البلاطة وتصمت الدولة، يصبح المثل الشعبي مرآةً سياسية، تعكس لنا وجهًا مألوفًا، لكنه لا يزال يصرّ على أن البحر… قابل للتبليط. وهذه هي الحال في بلادٍ تُقاس فيها الكفاءة بصلابة الرأس، فلا عجب أن يصبح "تبليط البحر" مشروعًا سياسيًا! فهل نضحك أم ننتظر أن يبيض الحمام… على الوتد؟