د. علي ضاهر
في الجزء الأول، تطرّقنا إلى انتشار خطاب شيطنة المسلمين بزعم أنهم عاجزون عن الاندماج، وأن تكاثرهم يهدّد هوية البلاد. على هذا الأساس، أُطلقت، في فرنسا، حملة ضد ما يُسمّى بـ"الإسلام السياسي"، وأصدرت الحكومة تقارير تحذّر من "تسلّل الإخوان المسلمين"، وتشير إلى تورّط "اتحاد مسلمي فرنسا" في محاولة لتغيير بنية الجمهورية من الداخل. فجاء الرئيس الفرنسي، بجلالته قدره، ليأمر بإعداد مقترحات لمواجهة هذا "الخطر"، تضمّنت: تشديد الرقابة على الجمعيات والمساجد، خصوصًا تلك التي يُقال إنها تتلقى تمويلاً خارجيًا؛ تجميد الأصول وملاحقة الجمعيات "المشبوهة" حتى لو لم تُدرج على لوائح الإرهاب؛ تصفية صناديق الأوقاف؛ اعتماد نظام قضائي خاص لتصفية أصول الكيانات المنحلّة؛ تعزيز تدريب الأئمة محليًا للحد من التأثير الخارجي؛ فرض "ميثاق العلمانية" على الجمعيات المدعومة من الدولة؛ وتشديد الرقابة على التعليم والرياضة، وكأن "كرة القدم" قد تكون هي الأخرى وسيلة لغزو فكري!
ألا تذكّر هذه الإجراءات بما يُمارس أو يُراد ممارسته في كيبيك، سيما وان الخطاب نفسه يتكرّر والمشهد ذاته يمثل وإن بلاعبين كيبيكين وبلكنةٍ محلية مع إضافة طبق من البوتين وفوقه قليل من شراب القيقب! ألا نستمع إلى الخطاب ذاته الذي يُشيطن المهاجرين، ولا سيما المسلمين منهم، ويحوّلهم إلى كبش فداءٍ جاهز؟ إن ارتفعت الجريمة: هم السبب! إن تراجعت الخدمات الاجتماعية: من كثرة ولاداتهم. إن زاد عدد العاطلين عن العمل: السبب هم من سرق الوظائف! إن ساءت نتائج فريق الهوكي أو امتلأت الشوارع بالحفر: هم أيضًا، بما لهم من انفاس حامية تلفح وجوه اللاعبين وتلحق الضرر بالزفت والقطران! هكذا تُختصر كل أزمات كيبيك من اللغة إلى الاقتصاد في وجود فئة "لا تتقن لكنة اهل كيبيك" ولا تعرف كيف تشنَّف آذانَ الكيبكوازية والكيبكوازي بنطق كلماتها! وكأن كيبيك كانت جنة عدن قبل أن يهاجر إليها من لا يجيد نطق "bonjour" بالمدّ الصحيح! او كأنها لم تعرف خللًا قبل أن يدعس ارضها هؤلاء الذين لا يتقنون فنّ الاندماج، ولا عبقرية النطق باللكنة، ولا القدرة على فكّ طلاسم العلمانية كما يفهمها بعض أبناء "الأمة الكيبيكية الأصيلة" المنحدرة من أصول فرنسية!
وهكذا تواصل حكومة لوغو محاكاة ماكرون بدقّة لافتة. فهي تُقدّم عروضًا تحت أضواء "الحرية والمساواة والعدالة"، بينما في العتمة الظلماء تُطبخ تشريعات تقوّض هذه القيم نفسها. فالقانون الذي يحمل اسم "علمانية الدولة" يمنع المعلمين والقضاة والشرطة من ارتداء الرموز الدينية، وكأن قطعة قماش على الرأس تهزّ أسس النظام العام. ولا يتوقف الأمر هنا، بل رفضت الحكومة حتى التسهيلات البسيطة في المدارس، كأوقات الصلاة أو وجبات الحلال في الكافيتيريا. قد تشكل "الشاورما" المطبوخة من اللحم الحلال خطرا جديدا على القيم الكيبيكية، والمسلم لا يعلم؟
واليوم، مع سعي الحكومة لتوسيع نطاق تشريعاتها، تريد كيبيك تقليص "التأثير الديني" في مؤسسات الطفولة المبكرة، وكأن طفلًا في الثانية من عمره يمكن أن يهدّد العلمانية إذا رأى مربية محجّبة! أما مشروع منع الصلاة في الأماكن العامة، فهي الذروة التي تفتقت بها العبقرية السياسية: إذ يبدو، والله اعلم بالنيات، أن بعض الوزراء مقتنعون بأن السجود يقوّي عضلات المسلمين، وقد يشكّل خطرًا على الأمن العام... وربما على مستقبل نمو أشجار القيقب أيضًا!
وها هو حزب لوغو، ومع اقتراب الانتخابات، يجد في هذا الخطاب ضالّته لاعادة الناخبين الى حضنه! فيقترح اعتبار التجول بوجهٍ مغطّى أو الصلاة في الشارع تهديدًا للأمن العام! فماذا سيكون موقف لوغو عندما يجتاح اهل كيبيك الشوارع في الهالوين فيتنكرون، كبار وصغار، ويغطون اوجههم بالأقنعة كي لا تعرفهم الأرواح الشريرة!هل سيمنعهم!!! ام انه سيقول هذه تقاليد شعب كيبيك! ولعل الخطوة القادمة، من يدري، أن يُمنع الكلام بالعربية إلا بتصريح من وزارة الهوية الوطنية، حفاظًا على "نقاء لكنة اهل كيبيك"! كل هذا يجري بينما يكرّر لوغو وحلفاؤه الحجّة ذاتها التي استخدمها ماكرون لتبرير التضييق على المسلمين: الإسلاميون الراديكاليون يهاجمون قيمنا ويحاولون فرض قيمهم علينا. ولزيادة الطين بلة، لا ينسى وزيره، جان فرانسوا روبيرج، وزير الهجرة والفرنَسة والاندماج، أن يضيف، على كلام لوغو، طبقة من العنصرية مبهرة ببلاطة فلسفية حين يقول بثقة: "هذا ليس أسلوبنا في الحياة في كيبيك"، وهذه الجملة المقيتة تذكّر بأقوال عتاة الانعزاليين الذين يردّدون جملتهم الشهيرة: "ما بيشبهونا"!
هكذا يتلطّون في فرنسا وفي كيبيك خلف الذريعة ذاتها: "القيم في خطر".
في فرنسا، تُرفع راية الجمهورية كلما ذُكر المسلمون، وفي كيبيك تُستدعى "قيم المجتمع" كلما ذُكر اسم محمد أو فاطمة. كلاهما يتعامل مع العلمانية كما لو كانت كنزًا مهدّدًا بغزوٍ إسلامي، لا كمبدأٍ يفترض أن يحمي الجميع. لكن في الحالتين، المسلم هو المتهم الجاهز. كلاهما يتعامل مع العلمانية كأنها مظلة تُفتح فقط عندما يمر مسلم، وتُطوى حين يمر غيره. فكأن السياسة في باريس تُرسل نشرة الطقس إلى كيبيك لتقول له: إذا أمطرت عندنا، فاستعد للبلل عندك!
خلاصة القول: ما يجري في كيبيك وفرنسا يكرّس قاعدة واحدة: المسلمون لا يهدّدون القيم، بل يكشفون هشاشتها ويعرّون زيفها، كما فعلت غزة العزّة حين فضحت خواء شعارات الديمقراطية، والحرية، والعدالة، والمساواة التي يتغنّى بها "الغرب الجماعي" ومعه زمرة من المستغربين المنبهرين او المستفيدين. فهذه القيم ليست سوى سلع موسمية تُعرض في الواجهات، تُستدعى حين تخدم المصالح، وتُسحب من التداول حينما تعرقلها!
 
                             
                                         
                                 
                         
                         
                        
107 مشاهدة
30 أكتوبر, 2025
77 مشاهدة
29 أكتوبر, 2025
256 مشاهدة
22 أكتوبر, 2025