دارين حوماني ـ مونتريال
رغم صغر سنّها وخصوصية حالتها، استطاعت المخرجة الكندية اللبنانية ورد سمحات - تكاد تبلغ 15 عامًا- المصابة بالتوحّد، أن تُدهش لجنة تحكيم مهرجان مدرسي للأفلام القصيرة بفيلمها La Pilule (الحبّة) والذي يحمل رسالة توعوية قوية، لتحصد الجائزة الأولى، ويتأهل إلى النهائيات في مهرجان السينما الكندي للأفلام القصيرة عن فئة الشباب بعد أن تم عرضه ضمن البرنامج الرسمي للمهرجان.
فتاة مبدعة، أفكارها تنساب بوضوح مذهل عبر صورة، أو لقطة، أو مشهد صامت. منذ كانت صغيرة، وجدت ملاذها في الرسم، حيث كانت الألوان تتكلم عنها حين يعجز الكلام، وحققت بذلك جوائز عديدة في مسابقات فنية كرّست موهبتها الفريدة.
لكن هذه المرة، لم تكتفِ بالقماش والريشة. اختارت أن تحوّل خيالها إلى فيلم قصير، من تأليفها وإشرافها، يحاكي عالَم مرض انفصام الشخصية، ويحمل في طيّاته رسالة إنسانية مؤثّرة عن فكرة إهمال أخذ جرعة الدواء اليومية. رغم التحديات، فازت وأثبتت أن الفن بأشكاله المتعددة هو لغتها الأكثر صدقًا.
الفيلم
في مشهدٍ يبدأ من لحظةٍ عادية وينقلب إلى كابوس، تُطلّ علينا فتاة في سن المراهقة مصابة بمرض الفصام. تقف أمام علبة الدواء في موعد الجرعة اليومية، تفتحها، لكن العلبة تنزلق من يدها وتتدحرج لتستقر أسفل البرّاد، بعيدًا عن متناول يدها. وفي لقطة ذكية ومؤثرة، تلاحق الكاميرا علبة الدواء وهي تتدحرج إلى الداخل في الأسفل. تحاول الفتاة التقاطها فلا تقدر، ثم تستسلم وتعود إلى غرفتها... وهناك يبدأ كل شيء.
تتوالى الهلوسات، ويجتاحها سيل من الأوهام: مخلوق غريب على هيئة وحش يتسلل إلى غرفتها، صدى ضحكات مرعبة تصدح في المكان وتردد: "أنتِ في خطر!"، يدٌ تمر على زجاج النافذة من الخارج، كل شيء يبدو حقيقيًا… إلى أن تغفو.
تستفيق فجأة على رسالة من والدها يذكّرها بتناول الدواء. تهرع إلى المطبخ وتحاول استعادة العلبة العالقة، لتُختتم القصة بمشهد بسيط الشكل، عميق الدلالة، لفتاة لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها.
فيلم قصير، لكنه مشحون بالإحساس والتوتر، صنعته ورد سمحات بكثير من الذكاء الفني والعاطفي. اختارت بنفسها المؤثرات الصوتية التي تضاعف من وقع المشاهد وتعمّق الإحساس بالاضطراب والخوف. الفكرة بسيطة، لكنّها تحمل رسالة بالغة الأهمية: إهمال الدواء ليس تفصيلًا عابرًا، بل قد يفتح الباب أمام معاناة نفسية حادة، ومشاعر قاسية يصعب احتمالها.
هذا العمل لم يمرّ مرورًا عاديًا، بل تفوّق على ثمانية أفلام أخرى، وحصد جائزة لجنة التحكيم في مسابقة مدرسية، ليتأهّل لاحقًا إلى مهرجان سينمائي وطني للأفلام القصيرة على مستوى كندا.
أعمال ورد سمحات التشكيلية
وفي مرسمها الصغير، تقف ورد سمحات أمام لوحاتها كما لو أنها عوالمها الخاصة، حيث تتحوّل المشاعر والأفكار إلى خطوط وظلال وسرد صامت لا يحتاج إلى ترجمة. هناك، نرى عددًا من الأعمال اللافتة، كل واحدة تحكي حكاية، وتبوح بفكرة في روح فنانة لم تتجاوز الخامسة عشرة.
من بين هذه اللوحات، لوحة "الاحتواء" التي حازت جائزة الاستحقاق الدولية Merit Prize عام 2023، وهي جائزة تُمنح تقديرًا لموهبة استثنائية أو إنجاز فني متميّز. فكرة هذه اللوحة وُلدت بطلب من مسؤولة في منظمةLions الكندية، للمشاركة في مسابقة لاختيار أفضل عمل فني يُطبع على روزنامة سنوية توزعها المنظمة. رسمت ورد فكرة الاحتواء، فجاءت لوحتها مفعمة بالحنان: فتاة وجدّها يقفان جنبًا إلى جنب متكاتفين، فيما تغطي جسد الجدّ حروف ورموز تُشير إلى تفاصيل حياه الجد ومروره بكل أنواع المشاعر. اللوحة فازت أولًا على مستوى كندا، ثم تفوّقت على 600 ألف لوحة من أنحاء العالم لتحصد الجائزة العالمية.
في لوحة أخرى مؤثرة، نرى مراهقًا "يعيش على الكهرباء"، يشعر أن حياته توقفت تمامًا حين انقطع التيار ولم يعد بإمكانه اللعب على الكومبيوتر أو الهاتف. رسمت ورد جسده برأس على شكل شاشة، وهاتف في يده، والأهم: سلك الكهرباء الخارج منه يشبه ذيل حمار، في إشارة ذكية وجريئة إلى فقدان الإنسان لتميّزه حين يتخلى عن عقله.
ولأن المدينة أيضًا حاضرة في مخيّلتها، رسمت ورد لوحة لمدينة مونتريال كما تراها هي، بحسّ بصري قادر على الإمساك بجماليات الرسم ثلاثي الأبعاد (Perspective drawing) كذلك أعادت رسم لوحة "الصرخة" لإدوارد مونش، بأسلوبها الخاص وبالفحم، في قراءة بصرية شديدة التعبير والخصوصية.
أما اللوحة الأكثر إثارة للأسى، فهي ما يمكن تسميته بـ"بابا نويل غزة"، حيث يظهر كائن شبحي كأنه قابض أرواح، يقود عربة سانتا كلوز المحمّلة بجثث، فيما يجرّها غزلان حزينة. لوحة موجعة ترصد مأساة الواقع وتعيد توجيه رموز الطفولة إلى مكانها الحقيقي في عالم لم يعد بريئًا.
تقول والدتها، دينا بعلبكي، إن شغف ورد بالرسم بدأ منذ الطفولة، ومع مرور الوقت بدأت العائلة والمدرّسون يندهشون من الأفكار التي تختزنها رسوماتها. "كل رسمة عندها فكرة"، تقول الأم. وتروي كيف جاء يومًا رسّام مخضرم من سوريا ليعرض أعماله في كندا، وسألتها معلمتها في الرسم عن رأيها بلوحاته، فأجابت ورد بلا تردد: "أعتقد أن هذا الفنان لديه مشكلة في نظرية الألوان". وهي نظرية تُظهر علاقات الألوان وتساعد في تفاعل ألوان اللوحة مع بعضها وتناغمها ثم شرحت فكرتها: "أوراق الشجرة كلها خضراء، لا يوجد ظل ولا تدرّجات لونية"، فأجابها الفنان أنه متيقّن من أنها ستُقيم معارض في المستقبل وأنه سينتظر أن تدعوه.
ورد ليست فقط رسّامة مبدعة، بل فنانة لديها قدرة على السرد البصري الآني. عندما سمعت ذات ليلة حكاية عن خاطف أطفال في مونتريال، لم تنم قبل أن ترسمه: كائن مريب يقود ولدين، وآخر رسمته على هيئة الرعب، لتُجسّد الفارق بين الطفل قبل الخطف وبعده، في تأمّل بصري يصعب على الكبار الإتيان بمثله.
وفي إنجاز آخر، فازت بالجائزة الكبرى عن مشروع رسم غلاف لرواية "الأمير الصغير"، حيث رسمته خمسين مرة بطريقة متتابعة تُظهره يمشي على الكرة الأرضية، كأنها رسومات متحركة تُجسّد سيرورة الزمن والانتماء الإنساني.
أما أكثر اللحظات الفنية دهشة، فحين زار كاهن مرسمها، وطلب منها رسم يسوع. رسمته ورد على الزجاج، لكنها استخدمت الألوان من الخلف، بحيث يُرى الشكل النهائي من الجهة المقابلة، في تحدٍّ تقني وفكري يعكس عقلًا إبداعيًا نادرًا في هذا السن.
وأخيرًا، نشرت أستاذتها في Galerie D'Art Mariam كتابًا يحتوي على رسومات لأشخاص مصابين بالتوحد، واختارت أن تتضمن صفحاته لوحتين لورد… فنيًا وإنسانيًا، ورد ستكون اسمًا يُراهن عليه.
الحوار مع ورد سمحات
التقينا ورد سمحات، وأجرينا معها حوارًا حكت لنا قصتها مع الفيلم، والصعوبات التي واجهتها، وعلاقتها بالفن والرسم، وكيف يساعدها الفنّ على التعبير، والمواجهة، والنجاح.
احكي لنا كيف بدأت الفكرة، ولماذا قررتِ العمل بمفردك، بخلاف الآخرين الذين عملوا في مجموعات؟
في الحقيقة، الفكرة كانت فكرتي، وأنا من كتبت السيناريو. وكان لديّ فريق: المصوّر، والمنتج، والممثلون. بدأ المشروع كجزء من التمرّن على التصوير، كتحضير قبل تنفيذ الفيلم الفعلي. ثم خطرت لي فكرة فيلم رعب، وبعدها فكرت أن أُدخل فيه توعية حول مرض الفصام. واتخذت قرارًا بإنجاز الفكرة.
أعطانا المعلم ورقة عمل مُعدة مسبقًا لإنتاج الفيلم، وتبعنا جميع المراحل المطلوبة. كانت العملية طويلة، لكنها ممتعة جدًا. خطرت ببالنا الكثير من الأفكار، وصوّرنا الفيلم في منزل أحد الأصدقاء.
لماذا اخترتِ هذه الفكرة تحديدًا؟ وما الرسالة التي كنتِ تحاولين إيصالها من خلال الفيلم؟
ربما استلهمتها من بعض أفلام الرعب التي شاهدتها، ثم قررت أن أكوّن فكرتي الخاصة. رسالة الفيلم كانت حول ماذا يمكن أن يحدث إذا لم يأخذ المصاب دواءه. ستبدأ بنوع من الهلوسة، وتفقد السيطرة على الواقع.
هل كنتِ تتفاعلين بنفسك مباشرة مع الممثلين؟
نعم، كنت معهم طوال الوقت خلال التصوير، وأرشدتهم إلى كيفية الأداء وما الذي عليهم فعله في كل مشهد.
كيف كان شعوركِ عندما فزتِ؟
لم أصدق نفسي! كانت هناك أفلام طويلة جدًا، لكنها لم تكن ذات حبكة قوية. فيلمي كان قصيرًا لكنه محكم ومؤثر. شعرتُ بالدهشة. لم أكن أصدق أنني سأفوز في مسابقة بهذا الحجم. والآن الفيلم يشارك في مسابقة على صعيد كندا، وأنا ما زلت مندهشة وسعيدة.
هل شجعكِ ذلك على مواصلة العمل في صناعة الأفلام؟
نعم، أمي قررت أن تعيدني إلى هذا البرنامج، وأنا أيضًا أردت ذلك. تعلمت من أخطائي في الفيلم، وسأحاول أن أتحسن في المرات القادمة. وهذا كان أصلًا هدف المشروع: أن نتعلم من الأخطاء ونتطور.
بالنسبة للرسم، نعلم أنكِ موهوبة أيضًا. هل يمكن أن تخبرينا أكثر عن تجربة الرسم؟
بدأتُ الرسم منذ كنت صغيرة جدًا. لا أتذكر أول مرة، لكن أظن أنني شعرت بالسعادة عندما أمسكت القلم لأول مرة وبدأت بالخربشة. كنت أرسم للمتعة ولتهدئة نفسي، وكان الأمر ممتعًا جدًا. وتطورت مهاراتي كثيرًا مع الوقت. أمي لاحظت شغفي بالرسم وشجعتني ثم سجلتني في العديد من برامج الرسم، والآن أتابع دروس الرسم مع أستاذي إدوارد.
هل تعتقدين أن هناك علاقة بين الرسم وصناعة الأفلام؟
أكيد. التصوير والإخراج نوع من أنواع الفن. مهاراتي الفنية أثّرت على الفيلم، خاصة في الجانب البصري. أعتقد أن هناك ارتباطًا كبيرًا بين الفنون التقليدية وصناعة الأفلام.
بعد المدرسة، هل تخططين لمواصلة دراستكِ في الجامعة؟ وفي أي مجال؟ الرسم أم صناعة الأفلام؟
لا أعلم بعد إن كنت سأدخل الجامعة أو مؤسسة تعليمية أعلى، لكن إذا وجدت شيئًا مثيرًا للاهتمام، ربما أتابع في مجال صناعة الأفلام، أو ربما في الفنون التشكيلية أو شيء آخر.
ما اللحظة الأصعب التي واجهتها أثناء العمل على الفيلم، وكيف تغلبتِ عليها؟
أصعب شيء كان أن أصوّر في بيت شخص آخر. فكرة أن أذهب إلى منزل أحدهم، وأتعاون مع فريق، جعلتني أشعر بالتوتر. أتذكر أول مرة شاركت فيها في تصوير فيلم في المدرسة، لم أشعر بالارتياح. عادة لا أحب الظهور أمام الكاميرا، فأنا خجولة جدًا. لكن مع الوقت، بدأت أعتاد على الأمر، وتغلبت على خوفي من الكاميرا.
هل كان هناك شخص معين شجعكِ أو دعمكِ أثناء المشروع؟
نعم، الناظرة في المدرسة (TOS) شجعتني كثيرًا على تجاوز خوفي. كما شجعني زملائي في الفريق، وقد شجعت نفسي أيضًا.
هل تفكرين في صنع فيلم جديد العام المقبل؟
في الوقت الحالي ليست لدي فكرة، لكن في المدرسة، يُقام مهرجان سنوي، لذلك ربما أشارك مرة أخرى.
أين تشعرين أنكِ تعبّرين عن نفسكِ أكثر: في الرسم أم في صناعة الأفلام؟
أشعر أن الرسم يعبّر عني أكثر، لأنه الوسيلة التي أستخدمها للتعبير منذ طفولتي. هو تعبير شخصي عن مشاعري. أما في الأفلام، سأعمل مع فريق، وهناك تعبير ذاتي أيضًا، لكنه ليس بنفس خصوصية الرسم.
ما الذي يعنيه لكِ هذا الفوز؟ وهل غيّر شيئًا فيكِ أو في نظرتك لنفسك؟
الجائزة غيّرت شيئًا بداخلي. شعرت أنني قادرة على تحقيق الكثير. وهذا جعلني أرغب في فعل المزيد، والتفكير بمشاريع فنية جديدة. الجائزة جعلتني أؤمن بنفسي أكثر.
297 مشاهدة
10 مايو, 2025
330 مشاهدة
22 أبريل, 2025
307 مشاهدة
13 أبريل, 2025