Sadaonline

طريقة للتَّكَيُّف مع القتلة 

مسؤولون كنديون هزّهم ما جرى لعائلة كندية فهبّوا عن بكرة أبيهم، للإعراب عن صدمتهم. لكن هؤلاء لم يَنْبَسْ بِبِنْتٍ شَفَةٍ حول مذبحة غزة

د. علي ضاهر

 لماذا يقوم زيد بالتعاطف مع عمرو ولا يهتم بما يصيب سفيان؟ لماذا تعمّ المظاهرات بلدا معينا تأييدا لقضية ولا يتحرك أمام أخرى؟ على أي أساس يتمّ اختيار قضية للتعاطف معها؟ لماذا ينحو المرء الى انتقاء مع من يتعاطف او يكنّ شعورا محببّا تجاه قضية وبغضا تجاه أخرى؟ هذه بعض الأمثلة:

 في غزة، نحو 20 ألف ولدوا وسط جحيم الحرب؛ مئات الخدّج ماتوا؛ آلاف الأطفال ماتوا أو فقدوا ذويهم؛ عشرات الآلاف يتضورون جوعا وعطشا؛ عذابات لا تطاق يتعرض لها الرجال والنساء والأطفال. كل هذا يجري أمام أنظار ساسة الغرب ولكنه لم يهزّ شعرة في رؤوسهم.

اعلان 



 فتح الغرب قلبه وأبوابه للأوكرانيين وأغدق عليهم الخيرات، في حين غضّ الطرف عن مهاجرين آخرين وتركهم عرضة للموت في البحار والبراري والحاويات ومنعهم من دخول أراضيه.

 موت طفلة أوكرانية بحادث سيارة حرّك جَيْشاً عَرَمْرَماً من المستنكرين وألهب عواطف جياشة، وهبّ الغرب بقدّه وقديده وهبّت معه حمية جوقة قادته للتعبيرعن حزنهم العميق.

 وفاة نفالني دفعت هذه القوى ذاتها لتشكيل جوقة عالمية للتنديد ببوتن وبإنزال مئات العقوبات الجديدة ضد الروس.

 الغرب بكامل قواه السياسية والإعلامية أصدر سيلا من المرثيات في رثاء الإيرانية مهسا أميني وذكر بها في الثامن من أذار، يوم عيد المرأة. فوقف كتّابه وسياسيوه، وناصرهم بذلك إعلاميون عرب ومنظمات أهلية لبنانية، لم تتأثر بعذابات نساء غزة لكنها تلوَّت أَلَماً مِنَ الحزن بوفاة الإيرانية، وعاضضهم بذلك كتّاب خليجيون، تزينوا حديثا بشماغ الدفاع عن حقوق "الحريم"، فإنبروا لإلقاء قصائد عصماء، تجاوزوا فيها بلاغة الْخَنْسَاء وبزَّوها في مراثيها لأخويها صخر ومعاوية.

اعلان 


 مسؤولون كنديون هزّهم ما جرى لعائلة كندية فهبّوا عن بكرة أبيهم، للإعراب عن صدمتهم. عمدة أوتاوا قال: "إنه أمر مزعج بالنسبة لي كوالد أن أسمع عن وفاة أطفال صغار". رئيس وزراء أونتاريو قال: "الأخبار مفجعة. إن أفكاري مع أصدقاء ضحايا هذه المأساة الرهيبة". رئيس الوزراء ترودو قال: "إن الجريمة لا يمكن تصورها ومن الواضح أن ردود أفعالنا كانت كلها صدمة ورعب إزاء هذا العنف الرهيب". لكن أي من هؤلاء لم يَنْبَسْ بِبِنْتٍ شَفَةٍ حول مذبحة غزة.

زعماء الغرب، بمعظمهم، ليس فقط لا يتعاطفون، بل يسعون لمنع وحتى لتجريم التعاطف مع أهالي غزة. جميعهم، من ماكرون الى ريتشي مرورا بشولتس ووصولا الى بايدن، متضايقون من الحملات الشعبية المؤيدة لفلسطين ويسعون لإصدار قانون للحدّ من هذه الحملات. آخر العنقود في هذه الحملة كان ترودو، رئيس وزراء كندا، الذي وصف الإحتجاجات المؤيدة لفلسطين بأنها تعبر عن "كراهية وسلوك مُضايِق تجاوز الحدود"، وأضاف إنه "عندما تتحوّل الإحتجاجات إلى كراهية، أو إلى أعمال تحرش - خاصة ضد كنديين - فهناك خط تمّ تجاوزه". لا ريب ان هدف هذه التصريحات هو شيطنة المتعاطفين مع غزة والتهديد بإمكانية مساءلتهم قانونيا. 

 تطرح هذه المواقف أسئلة حول التعاطف والتضامن. فما الذي يخمد التعاطف في حالة ويطلق له العنان ويشعل لهيبه في حالات أخرى؟ ولماذا يتمظهر عند فرد ويشغل-أحيانا وبصورة إنتقائية - عقله وتفكيره؟ لو كانت الانسانية هي التي تحرك التعاطف لوجدنا العالم يهبّ للتضامن مع نساء غزة! ولو كان اللطف تجاه المعذبين على الأرض هو الباعث على التضامن لهرعت البشرية جمعاء لنصرة أطفال غزة! صحيح ان التعاطف ملكة إنسانية، لكنه ليس ثابتًا يكنّه الفرد الى قضية او شخص مرة واحدة وإلى الأبد. بل هو ديناميكي يتأثر بعوامل عديدة، ومنحه أو سحبه او تعليقه أحيانا عن قضية او شخص يعتمد على ما يفرّق ويبعد او ما يجمع او يقرّب من دين أو بيئة إجتماعية أو لون أوعرق أو التزام سياسي أو حتى نادي رياضي او ذوق موسيقي، الخ. . . فالفرد يمارس عادة تعاطفا إنتقائيا او تفضيليا يمنحه في المقام الأول الى الذين يشعر بتقارب معهم او يرى شبه بينه وبينهم. لذلك ولتقوية حملة التعاطف مع جماعة، يتمّ العمل على شطب الفروقات وإزالة التنافر بينك وبينها وتقريب خصائصها ومزاياها مع خصائصك ومزاياك. وبالمقابل، لإضعاف التعاطف مع جماعة، ما عليك الا محاولة خلق هوّة بينك وبينها والتركيز على ما يبعدها عن خصائصك ومزاياك ومن ثم العمل على تشويه سمعتها لجعلها مكروهة. وكلما ازداد تشويه سمعة الفئة المستهدفة كلما تعاظم الإبتعاد عنها وإنعدم التعاطف معها.

اعلان


يتمّ إنعدام التعاطف مع فئة عبر تصفير ما يجمعها بك ومن ثم إلصاق صفات بغيضة بها، مثل: إرهاب، حرق أطفال، إغتصاب نساء، قتل كبار السن وغيرها من صفات مكروهة تلصق بعديمي الإحساس والإنسانية، وتستعمل لنزع صفة الإنسانية عن جماعة وإعتبارها بعيدة عن البشر وأقرب الى الحيوانات او إنزال رتبتها الى مستوى الحيوان، مما يؤدي الى تآكل التعاطف معها وإنعدام الإحساس بمعاناتها وآلامها. وهذا بالضبط ما تحاول إسرائيل إلصاقه بغزة. فهي عندما تتّهم حماس بالإغتصاب- وهذا تكتيك قديم قدم الحروب-، تضفي الشرعية على استعمالها العنف العسكري المفرط. وعندما تتّهم إسرائيل الفلسطينين بالحيوانات عندها تكون قد أبعدتهم عن الإنسانية وألغت التعاطف معهم وأجازت قتلهم. وعندما تقول ان السابع من اكتوبر هو "محرقة صغيرة" هي تسعى الى استدرار العطف نحوها بتذكير العالم بالمحرقة الكبيرة. وعندما تشبههم بداعش فهي تقوم بإحياء ذكريات أعمال داعش المقيتة في نفوس العالم وتهدف الى إثارة الغضب ضدهم وإبعاد الناس من التعاطف معهم، اذ انه من غير المنطق التضامن مع وحوش.  وبذلك تصرف إسرائيل الإنتباه عن الإبادة الجماعية التي ترتكبها بل تجعل من الواجب التضامن معها للقضاء عليهم.

 لقد قامت قيامة اسرائيل عندما تمّ اتهامها بالفصل العنصري وبقتل النساء والأطفال لأن أعمال كهذه تبعدها عن الأخلاق والرحمة والديمقراطية مما يبعد عنها جماهير الغرب، ويقلل من التعاطف معها وتقبّل أفعالها. وهذا ما دفع نتانياهو الى التصريح بان جيش الدفاع (كما تسميه إسرائيل) هو أكثر الجيوش أخلاقية في العالم. تطلق إسرائيل على جيشها اسم جيش "الدفاع" وتسمي ما تقوم به في غزة "دفاع" عن النفس. فباستعمال كلمة "دفاع" تسعى إسرائيل الى استدرار العطف نحوها وذلك بإيهام العالم ان أعمالها عبارة عن ردّ أذى "الحيوان" الفلسطيني العدواني الذي يعتدي عليها.

 هذا في الوقت الحالي. اما في الماضي وتاريخيا فقد قضى الغرب واسرائيل عشرات السنوات في العمل على مراكمة الروابط التي تجمعهم معا كما راكمت العوامل التي تبعد بين الغرب والقضية الفلسطينية. وهذا ما سوف نراه في المقالة القادمة.

 

 *تم استخدام صورة غلاف هذه المقالة منFreepik  لأغراض توضيحية فقط

الكلمات الدالة