Sadaonline

وطني ليس حقيبة!

تتصدر الحقيبة المسرح، مغلقة بإحكام على أسرار غامضة

طلال طه ـ مونتريال

.. وأنا لست مسافر! (محمود درويش)

تصدمك الحقيبة على مدى ساعة ونصف، تتصدر المسرح بوقاحة، كزائر غير مرغوب به، حقيبة فقيرة وخجولة – كما بدت لي – من حقائب الثمانينات، موسم هجرة الجيل الأول الى الشمال، بالإذن من الطيب الصالح – أديبنا السوداني الراحل الكبير!

حين كتب روايته الخالدة "موسم الهجرة الى الشمال" كان يعالج فيها مواضيع مسرحيتنا: أسئلة الشمال والجنوب، من الخرطوم في السودان الى لندن في أوروبا، الرجل الأسود الافريقي المسلم الفقير الى مهد حضارة الرجل الأبيض الانكلوسكسوني الغني المترف بحضارته ومدنيته، فيحدث الصدام المعقد، والارتطام الكبير، وتنفجر العلاقة بالأنثى.. ليحمل  أخيرا حقيبته الفقيرة ويعود بها الى مسقط رأسه في ضيعة متخلفة عالمه الثالث أو الرابع من افريقيا!

* * * * * * * * * *

تتصدر الحقيبة المسرح، مغلقة بإحكام على أسرار غامضة، علي وأحمد يحاولان معالجة أسرار الجيل الأول، حشرية الجيل الثاني والثالث للتعرف على مكنونات ذاك الجيل، ثقافته، إيمانه، تراثياته، لوازم علاقاته بالأرض والناس والاشياء البسيطة.. فما يمكن أن تنطوي عليه حقيبة فقيرة من حارات عيترون!..

ما الذي قامت بتهريبه هنية من الوطن، وهل تتسع حقيبة لحمل ثلاثين أو أربعين سنة أو أكثر من تاريخ ضيعة ووطن وناس وعلائق وشهداء!

أسهل ما يمكن أن تحمل في حقيبة صورة، الصور مرآة التاريخ، الصور تحفظ الناس بأعمارهم الأولى، الصور ترمز الى بدائيتنا في الشكل والملبس، ترمز الى خجلنا في مواجهة الآخر، المصور والناس من حولنا، تواضعنا أمام ذاك الزمن.. حيث الأبيض والأسود!

الكاسيت، لقيا جميلة من زمن التواصل الصعب والمعقد، حيث البحاروالمحيطات والجغرافيا تفصل بين الناس والاجيال والمشاعر والأحاسيس، فتحايل الناس على المسافة بالكاسيت، هذا الشيء الضعيف، الهش، المعرض للانكسار والتلف، شكل في حقبة من تاريخ العلاقات وجدان الأبناء والأباء والأمهات، إذ كان أمينا في نقل المشاعر والأحاسيس والبكاء.. شكرا هنية على هذه اللقيا!

ثم فستانها القديم، تحت أصوات هدير الطائرات وانفجار القنابل والصواريخ وأزيز الرصاص والصراخ، يحمل الناس في حقائبهم ما وصلت اليه أيديهم، يعرفون أن الباقي الى الدمار والحريق والغياب!

نعذر هنية على ارتباكها أمام الموت والدمار وعجالتها في "ضبضبة اللي بيسوى واللي ما بيسوى" في حقيبتها الفقيرة!

ما وجده علي وأحمد في الحقيبة يعيد ترتيب أولويات هنية في علاقتها الموزعة – قهرا وقسرا بسبب الحرب، بين كندا وعيترون – الوطن!

هنا، ندخل في قيمة هذا العمل، إذ تمسك الحقيبة بيدنا لتنتقل بنا من أسلوب الكشافة القديم في الوعظ والمباشرة – وقد نعذرهم في ذلك بلحاظ اقتصار جمهور الكشافة قديما على الأطفال والشبيبة – الى الترميز والغموض واللعب على مفردات أسئلة كثيرة تطرح في فضاء الجالية حيث الأهل أصبحوا أكثر انخراطا في التفاعل مع أنشطة الكشافة، أسئلة شائكة من خلال أسلوب الترميز، تحتاج الى أجوبة مقنعة من خلال الحركة والكلمة والضوء والصمت.. ربما كثير من الصمت!

* * * * * * * * * *

في هذه المسرحية تتابع "كشافة ومرشدات المسلم" رصد الحاجات الأساسية والضرورية والملحة لحياة الجالية ومستقبلها ومستقبل الأجيال فيما بعد!

تخلصت من الخطوات القلقة والمترددة وأخذت نفسا عميقا لتطرح الأسئلة الصعبة والمعقدة، والوجودية في كثير من الأحيان!

أسئلة الهجرة ومترتباتها، صراع الثقافات والأجيال، صراع الهويات، البينة والكامنة والضامرة، البريئة منها والخبيثة، الخجولة منها والجريئة، المكشوفة منها والمستورة!

ثلاثة أجيال تقريبا تتعايش في منطقة جغرافية متقاربة، في بيت واحد في أغلب الأحيان، في مبنى واحد، ولكن وبدون شك في علاقات ولقاءات أسبوعية حديدية صارمة، اجتماعات حول صحن الفول أو المناقيش أو المشويات أو الشاي.. فقط الشاي!

تنفجر الأسئلة من الأبناء الى الآباء، الشباب فيما بينهم، وكذا الشابات، الأهل مع الأصدقاء، وفي بعض الأحيان مع الشيخ والسيد وذوي الخبرة، وفي أغلب الأحيان تبقى الأسئلة ضامرة، خجولة، مترددة، خائفة وتنقصها الشجاعة.. إذ ذاك تصبح مسرحيتنا وغيرها من أنشطة الفكر والثقافة والدين والإيمان، تصبح ضرورة وحاجة وأكثر إلحاحا.. حد الوجوب الشرعي والأخلاقي والإنساني!

أسئلة الحقيبة تتوالد في الأوقات الصعبة، في الوطن حيث شلال الشهداء يروي زيتونه البائس، أوفي المهاجر حين تتكاثر الضغوط وتبرز تحديات الهوية وصراع الثقافات!

ليس من وظيفة هذه المسرحية أن تجيب على كل هذه الأسئلة، وبالتأكيد ليست وظيفة الكشافة – المؤسسة أن تجيب عليها أيضا، ولكن التزام المسرح والمسرحية وجديته والتصاقه بهموم الجالية وأسئلتها الكبيرة في الدين والعقيدة والهوية والإنسان، دفع بهذه المسرحية الى واجهة المشاركة في  يوميات الجالية وأسئلتها الصعبة!

* * * * * * * * *

على هامش الحقيبة حط Mathieu، زميل الدراسة والحي.. والعمل ربما، المقطوع من شجرة، يعيش مع والدته ولا يعرف أبا أو أخا، يلجأ الى صخبنا وجماعاتنا المتكاثرة والمتناسلة على مر الأيام والأشهر والسنوات، ضيفا دائما الى موائدنا الغنية والشهية، متفاخرا بطبقه الوحيد (Poutine) ومائدته البخيلة، يعوض عن ذلك بدعمه لقضايانا، ينتزع الانسان في قلبه من واقعه الصعب، يخرج به الى شوارع مونتريال، أو أي مدينة لم تقف على الحياد ولم تهادن المجرم!

جاء الصبي الأشقر ليحمل لافتة غزة ويجلد الكثيرين من أبناء جاليتنا، والأغلب من أبناء جلدتنا حول العالم، ويشكل حجة علينا، وعلى البائسين من أمتنا في الشرق!

حجة علينا؟ نعم، وقد أطالب كل الذين ضحكوا وتفاعلوا مع شخصية  Mathieu أن يخرجوا نهاية الأسبوع القادم  وما يليه الى شوارع مونتريال وغيرها من المدن، حيث الصبي الأشقر يتعبد برفض الظلم ويغدو أكثر انتماءا والتصاقا بقضايانا!

* * * * * * * * *

هل يحمل علي حقيبته ويعود كما فعل مصطفى سعيد بطل "موسم الهجرة الى الشمال"!

وهل هذا خيار حقيقي، وازن، عملي، متصالح مع الواقع، في مواجهة التحديات؟ سواء التي هي في الوطن أو المهاجر!

أم أن الواقع يتطلب التعامل مع المستقبل بمستوى شراء مخيم يكون مساحة أخرى لطرح أسئلتنا الشائكة واستنفاذ الجهد لصوغ إجابات حقيقية، متماسكة، رصينة، ومقنعة، وأستهلاكا لكل أدوات المعرفة التي نطال، ومنها وفي أساسها ومقدمتها مسرح جاد وهادف وملتزم.. كما عرفناه في سهرتنا الأخيرة!

الحقيبة، الضوء، العتمة، الممثلون على المسرح، المعدون والكتاب، المخرجون خلف الستار، الفكرة والمعالجة، النص المكتوب والمضمر، ما قيل وما لم يقل، الأحداث والأهداف، كل ذلك تضافر ليضحكنا ويبكينا ويحرك فينا مشاعر وأسئلة.. أزعم أننا نقترب من أجوبتها أكثر فأكثر!

 

الصورة من موقع النحت  الشرقي

 

 

الأخبار المتعلقة