مونتريال- دارين حوماني
في آخر مقال له في جريدة الأخبار بتاريخ 29-8-2018 كتب زياد الرحباني: "الأميركان (عم نحكي عن الإدارة حصرًا... بس)، الأميركان ما بيقتلو اللّي ما بيصدّقوه، بيقتلوا اللّي بيصدّقوه"، بهذه النبرة الذكية والساخرة بدأ زياد الرحباني حياته وانتهى بها، إن كان في اللحن، أو في القصيدة أو في النص المسرحي أو في مقالاته ومقابلاته. هو الشخصية الاستثنائية التي يتفق الجميع على عبقريتها ويتفق الجميع على كونه حالة فكرية نقدية لا تتكرر، سواء من محبّيه أو من المختلفين معه فكريًا. طروحاته السياسية الدقيقة والساخرة اخترقتنا جميعًا نحن المتألمون في ظل حرب أهلية، مرئية وغير مرئية، طاحنة لكل محبة بين أطراف الشعب الواحد.
توفي زياد الرحباني صباح السبت 26 تموز/ يوليو 2025 عن عمر يناهز 70 عامًا. وقد اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي حزنًا عليه من أقصى المشرق لأقصى المغرب العربي. وكتبت شريكة حياته السابقة لأكثر من عشر سنوات الممثلة اللبنانية كارمن لبّس: "أشعر وكأن كل شيء انتهى، أشعر وكأن لبنان أصبح فارغا". كما كتب الصحافي اللبناني بيار أبي صعب "إنه زمن ينتهي… زمننا، زمن زياد الرحباني الذي لن يتكرر". كما كتبت صحيفة الأخبار التي كان له عامود صحافي فيها لسنوات: "لم يكن قدَر زياد أن يكون مجرّد امتداد لعائلة الرحابنة. لقد اختار باكرًا أن يكون انشقاقًا ناعمًا، وصوتًا متفرّدًا. لكن ابن فيروز وعاصي، لم ينسَ أن يحمل الإرث الموسيقي الهائل من عائلته، ليعيد تركيبه على نحو خاص، فخرجت منه بصمة موسيقيّة تكتظّ بالإبداع والسخرية واليأس والموقف في آنٍ معا".
بدأ زياد مشواره بتلحين "سألوني الناس" لوالدته فيروز في سن الرابعة عشرة، ليواصل بعدها مسيرة لافتة في المسرح والأغنية. خلال الحرب الأهلية اللبنانية، كتب وأخرج أعمالًا مسرحية جسّدت واقع الطائفية والفساد بجرأة وتهكّم. وقد بدأ مسيرته المسرحية في "سهرية" (1973) ثمّ "نزل السرور" (1974) و"بالنسبة لبكرا شو" (1978) التي تناولت بأسلوب ساخر قضايا الخيانة والانتماء والوضع السياسي الهش، و"فيلم أميركي طويل" (1980) التي تعدّ تصويرًا ساخرًا لواقع لبنان خلال الحرب الأهلية، وتدور أحداثها في مستشفى للأمراض العقلية، شخصياته هم مرضى عاصروا تلك الحرب ويشكّلون نماذج مختلفة من المجتمع اللبناني. وتبعها عدد من المسرحيات منها "شي فاشل" (1983) و"بخصوص الكرامة والشعب العنيد" (1993) و"لولا فسحة الأمل" (1994). وفي مجمل أعماله، لم يكن فنه ترفًا، بل مرآة لما يعبّر بنا، واستشرافًا لما سيأتي علينا، منحازًا فيها للمهمّشين والفقراء، وبرحيله، خسرنا وخسر لبنان ضميرًا فنيًا نادرًا، وشاهدًا صادقًا على هذا الزمن العبثي.
تواصل موقع صدى أونلاين مع عدد من الأدباء والكتّاب في مونتريال، وكتبوا كلمات في رثائه
الأستاذة الجامعية والأديبة د. رلى الجردي: كلنا يدرك أننا أكثر من أغنياء، فنيًا وثقافيًا وإنسانيًا بزياد الرحباني
زياد الرحباني طاقة إبداعية قلّ مثيلها، ولقد غيّرت موسيقاه التراث والمكان والإنسان وتركت لغته المسرحية، عالم مفرداته المرتبط بالصراع الطبقي والنضال العمالي ومقاومة الكيان بصمته الدامغة على جيلين من الفنانين والمثقفين وخلق جمالية خاصة به لن تزول ولو زال. من حوالي 4 سنوات قدمت في جمعية جلجامش محاضرة عن مسرح زياد الرحباني واليسار، تحدثت فيها عن السمات الفنية والثقافية للغته المسرحية وسط تحولات اقتصادية وسياسة محورية في لبنان، أهمها تنامي الحركات اليسارية والعمالية وصراعاتها المطلبية. وقلت في المحاضرة أن صورة المرأة في نتاجه المسرحي لم تتطور، ولم تحمل سمات ثورية، كما وإن تعاطيه مع المأساة السورية لم يحمل الموقف النقدي الثوري الذي كنا نتوقعه. رغم ذلك كلنا يدرك أننا أكثر من أغنياء، فنيًا وثقافيًا وإنسانيًا بزياد الرحباني. وداعًا زياد.
الأديب والمترجم د. نوفل نيوف: كان زياد واحدًا من قلة قليلة لا تساوم، أو تهادن، أو تختبئ خلف الكلمات
زياد الرحباني كان أحد أبرز المجدّدين، إن لم يكن أبرزهم، في ميدان الثقافة والفنون العربية خلال السنوات الخمسين الماضية. فقد قام بنقلة عميقة وسلسة في مجال صقل الذائقة الجمالية لدى جمهور واسع، متنوع المشارب، ومتفاوت الثقافة، وشق طريقا مميزة في عالم الموسيقى والتلحين والأداء والكلمات...
جاءت بساطة الكلمات التي يغنيها أو يلحنها مشحونة بحرارة تلغي المسافة بين سطح الموضوع وأعماقه الإنسانية... اجتماع لعناصر شتى قلّما اجتمعت حتى في الشعر والرواية والسرديات المكتوبة عمومًا. اجتماع الهشاشة والمعاناة والكشف والسخرية والتعابير الشعبية في كأس واحدة.
فضلًا عن مواقف جلية وجريئة من قضايا يومية وحياتية صغيرة وكبيرة يكتوي بنارها الجميع.
مواقف لا تدّعي أو تتوسل بطولة لفظية أو شعاراتية بائرة.
كان زياد واحدًا من قلة قليلة لا تساوم، أو تهادن، أو تختبئ خلف الكلمات ومساحات الصمت الإجباري، أو تدفق العواطف والشكوى من كل صنف ولون.
كان زياد، على وحدانيته، متفانيًا، مجتهدًا، منكبًّا على عمله بشغف لا يرحم. بهذا المعنى لم تكسره الحياة، مثلما لم تلعب به مفاتن الشهرة وإغراءات المال.
لعل من المصادفات السعيدة، في مجال الغناء والتأليف والتلحين أن زياد الرحباني شكّل دعامة بالغة القوة والأثر في مسيرة المطربة العظيمة فيروز عبر احتضان تجربتها الغنائية والانتقال بها، تلحينا وإعادة توزيع موسيقي إلى حداثة راقية وأصيلة يستطيع أهل الاختصاص الاستفاضة في رفع الغموض عن قيمتها وفحواها.
الأستاذ الجامعي والكاتب د. طنوس شلهوب: زياد لم يغادر
السيّد مشى إلى استشهاده كما يُشعل أحدنا شمعة في آخر الليل. كان يعرف أن فرص اغتياله في الضاحية أعلى بكثير من أي مكان آخر، ومع ذلك أصّر على البقاء في قلب النار. لم يكن الموت عنده نقيضًا للحياة، بل ذروتها. لحظة الكشف الكامل. ذهب وفي قلبه يقين لا يتزحزح: أن الدم ليس النهاية، بل اللغة الأخيرة حين تسكت الكلمات. لم يذهب ليموت، بل ليحيا فينا على هيئة كرامة لا تُقهر، على هيئة وعد لا يُنكث، على هيئة حلمٍ مزين بزيتون الجليل وبرتقال يافا ومآذن القدس المتعانقة مع أجراس بيت لحم.
وزياد… ذلك المبدع العبقري الذي جعل من النوتة خندقًا، ومن الأغنية سلاحًا، ومن الموقف خبزًا يوميًا للكرامة. زياد اليوم لا يريد أن يعيش في عالمٍ يُقاس فيه الموت بالأرقام، وتُبَث فيه مشاهد المجازر بلا أن ترتجف ضمائر، عالمٍ يرى فيه جثث الأطفال في غزة ويبقى متفرجًا مخصيًا حتى عن الصراخ. زياد، الذي قال يومًا: "أنا مش سياسي، بس عندي رأي. وإذا سَكَت… بموت". ها هو الآن يسكت فعلًا، لا لأنّه خان، بل لأنّ هذا الصمت موته المختار. اختار أن يحتج على الإبادة التي يرتكبها الصهاينة بحق الشعب الفلسطيني، لا بمنشور، ولا بخطاب…بل بفعل رحيل، بانتحار وجدانيّ يشبه صرخة أخيرة في وجه عالم فقد إنسانيته.
في لحظة من التعب، من مسرحيته "بالنسبة لبكرا شو؟"، صرخ زكريا ـ وهو صدى زياد نفسه- قائلًا:
"بيسألوك شو عملت، ما بيسألوك لشو صرت هيك.
بيحسبوا شو كسرت، ما بيسألوك شو انكسر فيك."
هذا الانكسار هو ما أصاب زياد اليوم. غزة تنكسر في صوته. وصوته لا يريد أن يواصل الغناء فوق الركام.
"أنا مش كافر… بس الجوع كافر"… لم تكن أغنية فقط، بل بيان احتجاج مبكّر على زمن سنراه يتكرّر. فلسطين بالنسبة لزياد ليست خبرًا في نشرة، بل القلب نفسه يُقصف ويُحاصر ويُحرق. كل طفل يُقتل هناك، يموت معه وتر. كل أم تُنادي ولا يُلبّى نداءها، تنكسر فيها جملة موسيقية. ولأنّه لا يحتمل هذا الانكسار، قرّر أن ينسحب. لا موت عابرًا… بل موت احتجاج. لا انطفاءً… بل اشتعالًا صامتًا.
السيّد حمل سلاحه، قاتل، صنع الانتصارات في زمن الخذلان والجبن والخيانة، ومشى نحو المجد. وزياد حمل موسيقاه ومشى نحو الغضب. كلاهما عرف أنّ من لا يملك القدرة على التراجع عن ضميره، لا يملك إلّا أن يموت واقفًا. ها هو الفنان قرر أن يمضي، أنّ يترك قلبه يخونه، لأنّه لم يعُد قادرًا على العيش في زمن تُباد فيه فلسطين وعداد الشهداء يتسارع بقنابل فاقت قوتها ما ألقي على هيروشيما.
في زمن تتواطأ فيه ما يُفترض أنه الحضارة مع الوحشية، قرر زياد اغلاق الباب خلفه لأنّه انتمى بصدق ونقاء إلى الناس، وفنان الشعب لا يقدر على التواطؤ، وفي موته، يصبح أوضح، أبلغ، أصدق.
فنان الشعب لا يموت، وهو يحتجّ بالموت على جرائم التوحش الصهيوني المدعوم غربياً بتواطؤ أنظمة التطبيع والخيانة.
زياد قرر الذهاب إلى الموت مثل السيد، وارتحالهما هو صرخة احتجاج صادرة من أعماق الوجدان في تكثيف لقناعة أن فلسطين هي أمّ المعنى. زياد مثل السيد لم يغادر… بل ارتفع.
الكاتب عبد اللطيف الحماموشي: رحيل زياد الرحباني في زمن الخسارات
غادرنا اليوم، جسدًا فقط، زياد الرحباني. أمّا روحه وفنّه سيظلّان بيننا. تعرّفتُ على أعمال زياد عندما كُنت مراهقًا، في سياق سياسي واجتماعي مغربي حَالم، حيثُ كان الصراع على الديمقراطية على أشدّه خلال وبعد 2011. اجترّني خطابه التقدّمي، و"تعصّبه" للعدالة، لفنّه وإبداعاته المُوسيقية. فاكتشفتُ في حينه فنانًا حقيقيًا ينبعُ إبداعهُ من شعور عميق وحسٍّ إنسانيٍّ رفيع قلَّ مثيلهُ.
أصبحتُ بعدها "شبه مُدمن" على بعض مقاطعه الموسيقية. كنتُ مثلًا دائمًا ما أستمعُ بشكل شبه دوري في كل صباح وأنا في طريقي للجامعة إلى مقطوعته "وقمح". إنها مقطوعة صامتة، لكنها عميقة. كانت ولازالت تُحرّكُ بداخلي شُعور عجيب يتأرجحُ بين الحُزن المُمتد، والراحة. لا أدري كيف يُمكن وصف ذلك الشعور كتابةً...
لقد عبّر زياد الرحباني على نبض الناس وآلامهم وأحلامهم. عن الخيبات في السياسية والحب والحياة... لكنَّ قوّتهُ تجسّدت أساسًا في الجمع بين العمق الفنّي الناتج عن عبقرية قلَّ نظيرها، وبين مواجهة السلطة – سياسية كانت أو مالية أو استعمارية – بكل جبروتها. وهذا ما يميّزهُ عن غيره. أقصد عندما يتماهى الشعور الفطري المُفعم بالجمال، مع مقاومة الظلم والاستبداد والاستعمار وكل من يدور في فلكهم. هذا الخليط ينتجُ لنا ما أنتجه زياد الرحباني.
رحل زياد الرحباني في زمن الخسارات، حيث الجوع والإبادة الجماعية سائدان في غزّة. والعالم العربي، من المحيط إلى الخليج، يسبح بين سلطويات وديكتاتوريات لا تكترثُ سوى بمصير حكّامها. برحيله، نخسر صوتًا قويًا، وروحًا شفّافة وقلبًا شجيًا.
الشاعرة رندة رفعت شرارة: اسمٌ أكبر من أن نفيه حقه بمقال أو قصيدة
زياد الرحباني، اسمٌ أكبر من أن نفيه حقه بمقال أو قصيدة. وما أكتبه الآن ليس إلا تحية لروح الفنان الراحل – الباقي في وجداننا إلى الأبد.
زياد الرحباني، الابن الأكبر للملحن عاصي الرحباني والمطربة فيروز، الفنان الثائر الذي ناضل بفكره وكلمته ولحنه، وأثبت أن لمسة القلم، ولمسة المفتاح الموسيقي، ورنّة الصوت، وسطوة الكلمة، هي أسلحة فاعلة في المواجهة الجماهيرية، كما في تحفيز الناس على الثورة ضد الفقر والظلم والتسلّط والفساد.
النشأة الفنية ضمن العائلة الرحبانية كانت دافعًا لزياد نحو اختيار طريقه، لكن باختلافٍ كبير عنها، إذ تميّز بالتجديد الذي أدخله على الأغنية اللبنانية، وعلى اللحن الذي جمع بين الموسيقى والمسرح السياسي الساخر، المبني على النقد الاجتماعي والسياسي. كما امتزجت موسيقاه بين الشرق والغرب، ولا سيّما موسيقى الجاز، بأسلوب فني خاص جمع بين السخرية والعمق، وبين التمرد والحب، مجسّدًا هموم الناس وآمالهم في مؤلفات لا تُنسى.
في عمرٍ مبكر لم يتجاوز الثالثة عشرة، وكدليل على عبقريته، ألّف زياد (ما بين عامي 1968 و1976) عمله الأول "صديقي الله"، تناول فيه موضوع الإيمان والتوجه إلى الله في كل شيء. يظهر ذلك في إحدى قصائده حيث يقول:
"وقلت: أين هو؟ وقالوا: في كل مكان/ وقالوا يومًا: إن الله صديقي/ ورحت أفتّش عن صديقي بين الزهور، في الأحراج، في الأشجار، وراء الصخور المورقة، وخافت مني العصافير وهربت/ ترى صديقي، كالعصافير، خاف مني وهرب؟/ وسألتهم: صديقي، هل يخاف؟ قالوا: يخاف ألا تحبه!/ وقلت: أين هو؟ وقالوا: في كل مكان".
بدأ مسيرته الفنية مطلع السبعينيات مع أولى مسرحياته الشهيرة "سهرية"، التي ما زالت أغنياتها تتردّد في السهرات والاحتفالات الخاصة. كما شكّلت ألحانه لوالدته السيدة فيروز مرحلة جديدة ومختلفة في مسيرتها الفنية، مثل: "سألوني الناس"، "كيفك إنت"، "صباح ومسا"، "عودك رنان"، و"البوسطة"؛ وهي أغانٍ لا تزال في قمة مجدها حتى الآن.
في عام 1971، وضع زياد أول ألحانه الغنائية لخالته هدى بعنوان "ضَلّي حبيني يا لوزية". وبعدها بعامين، قدّم ابن السابعة عشرة أول لحن لوالدته فيروز، وهي أغنية "سألوني الناس" من كلمات عمه منصور الرحباني. كانت الأغنية مهداة لعاصي الرحباني أثناء مرضه، ولاقت نجاحًا باهرًا ما زال مستمرًا حتى اليوم.
لحّن وكتب العديد من الأغاني، والمقطوعات الموسيقية، والحلقات الإذاعية، والمسرحيات، التي ستبقى شاهدة على أن الموت يقهر الجسد فقط، لكنه لا يمحو الإبداع. بل على العكس، تبقى الإنجازات ثروة تتناقلها الأجيال، ويظلّ الفنان زياد الرحباني اسمًا يسكن الذاكرة والقلوب إلى الأبد.
وداعًا زياد الرحباني... أتانا الموت صفعةً على وجه الزمن. وبات الحزن أكبر من الكلمات، والمقامات، والنوتات، والأوتار.
وفي مؤلفه "صديقي الله" يقول: "جلست أمي أمام الموقد تخبرني قصة. قالت: كان رجلٌ يعمّر بيتًا، وكان فقيرًا، وجمع الأحجار حجرًا حجرًا. أتى بها من الأحراج والغابات. أتعبه العمل، ولكنه أكمل قائلاً في نفسه: "أعمر بيتًا أسكنه لباقي العمر". وظلّ يعمّر طول عمره. وعندما انتهى البيت، انتهى صاحب البيت. وقلت لأمي: هل انتهت القصة؟ فقالت: نعم".
انتهى البيت، وانتهى صاحب البيت...
لكن لم تنتهِ القصة.
ظلّ زياد "يعمّر" طول عمره، وما بعد عمره.
رحل زياد... ويبقى زياد.
ويبقى اللحن صدىً يتردّد في كل وجدان،
وتبقى الأيقونة فيروز، أمًّا حزينة، وأمًّا عظيمة، يسكنها الوجع، وتردّد من كلمات وألحان ابنها "ودايماً بالآخر، فيه آخر... فيه وقت فراق."
باسمي، وباسم "الحركة الإبداعية – كندا والعالم"، نتقدّم بأحرّ التعازي من عائلة الفنان الكبير زياد الرحباني، ومحبيه في جميع أنحاء العالم. لروح زياد الرحباني الرحمة والسلام، ولقلب فيروزنا الأم وعائلته الصبر والسلوان.
الكاتب سرمد المقدسي: زياد الرحباني ظلّ يُغرّد خارج سِرب المهزومين
لم يكن زياد الرحباني يومًا فنانًا عاديًا، ولا موسيقيًا يطلب التصفيق أو يتوسّل الرضا، بل كان دائمًا مُبدعًا يُغرّد خارج سِرب المهزومين، ويرفع سيفه وصوته في وجه كل من ارتضوا بالهزيمة الفكرية والسياسية، فذهبوا إلى التطبيع أو ابتذال الفن.
منذ بداياته، اتّخذ زياد موقفًا مختلفًا، جديدًا، وصعبًا. في السياسة كما في الموسيقى، قال ما لا يُقال، وانتصر للفقراء والمهمّشين، وجاهر بانحيازه إلى فلسطين و"الجنوب" والمقاومة والتحرر، من دون أن يُبدّل بوصلته أو يُبدّد إرثه النضالي في التسويات.
أبدع "فيلسوف الشعب" موسيقى لا تُشبه سواه، حملت نكهة الشرق المُتمرّد على التقليد، واستلهمت من الجاز والموسيقى الكلاسيكية والتراث وكلام الناس العاديين وإيقاع الطبيعة "خلطة سحرية" أصبحت جزءًا من الوجدان العام لجيلٍ عربيّ يبحث عن معنى وسط الحروب والركام.
كان زياد ناقدًا ساخرًا، لكنه لم يكن يومًا فنانًا "من أجل الإضحاك"، بل من أجل التعرية. استخدم المسرح ليقول الحقيقة، والبيانو ليعزف الحنين والرفض، والكلمة الصادرة من قلوب "المعترين" ليهزّ ضمير الزمن العربي النائم.
لقد ظلّ وفيًا لما آمن به، فنيًا وسياسيًا، ورفض أن يكون مجرد "ابن السيّدة فيروز" أو تابعًا لمدرسة سابقة. خلق مدرسته الخاصة، ومسيرته، ومجده، وموسيقاه التي عبرت الحدود، حتى وصلت إلى زنازين الأسرى في سجون العدو، والمقاتلين في الخندق الصحيح، وجمهورٍ عالميّ تجاوز الجغرافيا والحدود الرسمية إلى قلوب البشر.
في زمن القبح، اختار زياد الرحباني الجمال؛ وفي زمن الهزيمة، غنّى للثورة. ثم قرر أن يبصق على هذا العالم ويرحل في زمن الإبادة. غير أن أمثال زياد الرحباني لا يرحلون. ولو خرجت الآن إلى أيّ شارع، ستجده ينتظرك على أوّل زاوية.
زياد الرحباني، صوتك نشازٌ في آذان القتلة، ولحنٌ خالدٌ رقيقٌ في وجدان لبنان وفلسطين وكلّ أحرار العالم.
191 مشاهدة
28 يوليو, 2025
510 مشاهدة
27 يوليو, 2025
584 مشاهدة
24 يونيو, 2025