Sadaonline

نساء خالدات ... الشهيدة السيدة آمنة بنت الهدى الصدر

الشهيدة بنت الهدى


إعداد: جاسم نعمة مصاول ـ مونتريال*


الولادة المباركة:
ولدت السيدة بنت الهدى في الكاظمية سنة 1357 هـ (1937)، وهي بنت آية الله السيد حيدر الصدر، وأمها أخت آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين، وأخواها السيد إسماعيل الصدر، والشهيد السيد محمد باقر الصدر. توفي أبوها وهي ماتزال في سن الثانية من عمرها. 

النشأة:
لم تدخل الشهيدة بنت الهدى المدارس الرسمية الملكية، لا ليحرموها من العلم وهم أهله، فبيتها كان مدرسة، وعائلتها كانت معهداً واهتم بها أخواها ــــ فضلاً عن أمها ـــــ حتى علماها مبادئ القراءة والكتابة والحساب حتى أطلعاها ودرساها المناهج الرسمية، مضافاً لما أولياها من تعليم الدروس العلمية: النحو والمنطق والفقه والأصول وباقي المعارف الإسلامية، حسب مقتضيات التدرج والتبسيط، لما أحسا فيها الاستعداد للاستيعاب الذكي.
ينقل عن والدة آمنة، أن آمنة كانت تهتم بالقراءة والتركيز فيها، ومنذ صغرها كانت تميل إلى الانفراد وبغرفة خاصة طلباً للهدوء، ليست هي انعزالية ــــ بل كانت اجتماعية الطبع ــــ لكنها لا ترى إن اجتماعيتها تفرض عليها أن تهدر الوقت وتبدد الزمن في حلقات أحاديث مفرغة، إنها تميل إلى الانفراد للتأمل بهدوء، كي توفر على نفسها وشخصيتها التي تعدها تهيؤاً للعطاء والبذل الغالي والرخيص في سبيل الله.
وحينما قرر شقيقاها الرحيل إلى النجف لإكمال دراستهما، رحلت آمنة الصدر معهما وكان عمرها آنذاك أحد عشر عاماً، وهناك في النجف أخذت تدرس الكتب والدروس الخاصة باللغة وعلومها والفقه وأصوله والحديث وعلومه، كما درست الأخلاق وعلوم القرآن والتفسير والسيرة النبوية. هذا إضافة إلى تلقيها العلوم الدينية، حيث انكبت السيدة آمنة بنت الهدى على مطالعة الكتب والمؤلفات، فاتسعت معالم اطلاعها ومعرفتها بكثير من الأمور، ومن ذكرياتها كما ترويها لأحد مريداتها إذ تقول: (حينما كنت صغيرة كانت حالتنا المادية ضعيفة جداً، ولكن كانت لدي يومية مخصصة قدرها (عشرة فلوس) كنت أجمع هذا المبلغ اليومي البسيط، ثم أذهب إلى السوق لشراء كتاب إسلامي، وكانت لي صديقة تفعل كفعلي في جمع المبلغ اليومي لها، ولكنها تشتري كتاباً آخر، كي تقرأ كل واحدة منا كتاب صديقتها.
أمست الطبيب والحكيم الذي راح يدرس الطب ليكون معالجاً لمن اصابه المرض، والفقه الذي يعلم الفقه، فكانت في مستوى جيد حيث أهلتها الدراسة إلى الانتقال لمرحلة جديدة، وهي دراسة المجتمع وتشخيص أمراض المرأة المسلمة في العراق والعالم الإسلامي، بنت الهدى تفكر وتنظر وتكتب في كيفية الوصول بالمجتمع والأمة إلى أعلى مراقي السمو الإنساني من خلال الرسالة الإلهية العظيمة، كانت تعيش الهَّم الرسالي في تفكيرها واهتمامها. لذا كانت للشهيدة بنت الهدى آثار علمية أتحفت بها المكتبة الإسلامية والتي امتازت بالعمق والأصالة والدعوة إلى الإسلام عن طريق هذه الآثار. كما كرّست ذوقها الادبي في خدمة الدين، فجسّدت في قصصها، المفاهيم الإسلامية بشكل أحداث وقضايا من واقع الحياة.

نشاطاتها في الحياة الاجتماعية والثقافية:
 كان لها رحمها الله دوراً فعالاً وملموساً في هداية الفتيات، ورجوعهن إلى التمسك بتعاليم الدين الحنيف، فمن كان قريبا منها يعرف ذلك، حيث كانت تعقد جلسات دورية في بيتها وفي بيوت أُخرى، بل كانت ــ وحين سماعها بوجود جماعة من النسوة في بيت معين ــ تسارع إلى الحضور في أوساط النساء عندما ترى أن الجو مناسب. لم تكتف الشهيدة بنت الهدى بهذا القدر من التبليغ، بل تعدته إلى مجال أوسع وأكثر فائدة، وهو مخاطبة الفتاة العراقية والعربية عبر مجلة الأضواء، فما أن علمت أن العدد الأول سيصدر حتى بادرت وكتبت فيه مقالاً، تحث فيه المسلمة على الالتزام بتعاليم الدين وعدم الانجرار وراء الغرب.
في عام 1967  أصبحت الشهيدة بنت الهدى المشرفة على مدارس الزهراء في مدينتي النجف الأشرف والكاظمية، إضافة لإشرافها على مدرسة دينية أخرى في مدينة النجف الأشرف. فكانت رحمها الله تشرف على تنظيم هذه المدارس، وتعين المناهج الدراسية التربوية الإسلامية لها، وتحل كل ما تواجهه هذه المدارس من مشاكل وصعوبات، فكانت تقسم أيام الأسبوع بين النجف والكاظمية، فبالإضافة إلى الدروس التي كانت تلقيها على الطالبات، كانت لديها محاضرات تربوية تلقيها على المعلمات بعد انتهاء الدوام الرسمي للمدرسة، وبعد الظهر كانت لديها لقاءات مع طالبات الجامعة حيث تجيب على أسئلتهن، وتلقي عليهن محاضرات ودروساً في المعارف الإسلامية.
وفي عام 1972  وبعد صدور قانون تأميم التعليم في العراق استقالت الشهيدة بنت الهدى من عملها بعد أن عرفت أنها لن تستطيع أن تؤدي دورها الرسالي. وقد حرصت الدولة في حينها على إبقاء بنت الهدى في هذه المدارس، وبعثت لها كتب رسمية تطالبها بالعودة إليها، إلا أنها رفضت ذلك، وحينا سُئِلت عن سبب رفضها للطلبات الرسمية قالت: (لم يكن الهدف من وجودي في المدرسة؛ إلا نوال مرضاة الله، ولما انتفت الغاية من المدرسة بتأميمها فما هو جدوى وجودي بعد ذلك؟).

نشاطها الفكري:
لم يقتصر نشاط الشهيدة بنت الهدى على إلقاء المحاضرات والدروس، والكتابة في مجلة الأضواء الإسلامية، بل تعدته إلى مجال أوسع ورحاب أكبر، وهو كتابة القصة الإسلامية الهادفة، والتي تستطيع بواسطتها أن توصل صوتها ودعوتها إلى أكبر عدد من النساء في العالم العربي. فبدأت بكتابة القصة، أخذة بنظر الاعتبار أولوية الهدف وثانوية الجانب الفني، حيث لم تكن كتابتها للقصة عن هواية أو احتراف، بل لهدف معين، وهو مخاطبة الجيل الناشئ بأسلوب قصصي بسيط، وقد أشارت رحمها الله إلى هذا المعنى بقولها: «إن تجسيد المفاهيم العامة لوجهة النظر الإسلامية في الحياة هو الهدف من القصص الصغيرة».
للكاتبة بنت الهدى آثار علمية أتحفت بها المكتبة الإسلامية والتي امتازت بالعمق والأصالة والدعوة إلى الإسلام عن طريق هذه الآثار وهي:
(كلمة ودعوة)، وهو أول كتاب صدر للشهيدة في أوائل الستينات.
(الفضيلة تنتصر)، وهي قصة إسلامية طويلة تبين فيها انتصار الفضيلة والتقوى على الرذيلة والفاحشة. 
(المرأة مع النبي).
(امرأتان ورجل) وهي قصة إسلامية تحمل معاني كبيرة في التربية والتوجيه. 
(البرهان) وبصياغة أدبية رائعة عن طريق المراسلة بين سائل حائر ومجيب واع.
(صراع من واقع الحياة) مجموعة قصصية بينت من خلالها عدة مفاهيم إسلامية وأعطت حلولا لمشاكل نفسية واجتماعية.
(الباحثة عن الحقيقة) قصة طويلة كتبت عام 1979  طرحت فيها مسألة جوهرية في الدين، فهو ليس مجرد رموز ونعوت تملى من قبل الأهل، ولا هو مجرد النطق، بالشهادة، وإنما هو عقيدة ونظام.
(ذكريات على تلال مكة) كتبتها بعد ذهابها إلى الحج سنة 1973  وكانت بصحبة ست نساء، تروي فيها كيفية أداء مناسك الحج، وتعقبها رواية رحلة الحج بقصيدة شعرية طويلة.
(الخالة الضائعة) مجموعة قصصية، كتبتها عام 1974  تبين عدة مفاهيم لتنظيم الحياة الاسرية والاجتماعية. 
(لقاء في المستشفى) قصة فيها دحض لفلسفات مادية بطريقة سلسة مفهومة، على شكل حوار يشد القارئ لأنه يترقب العلاج لأحداث عائلية واجتماعية من صميم الحياة اليومية.
(ليتني كنت أعلم) وهي تتضمن مجموعة من القصص الهادفة في تربية النفس وعلاج بعض الأمراض الروحية.

نشاطها السياسي واستشهادها:
عاصرت الشهيدة بنت الهدى عدة أحداث سياسية هامة منها: اعتقال الحكومة العراقية لشقيقها الشهيد محمد باقر الصدر في مستشفى الكوفة عام 1972 ،  وشاهدت أحداث عام 1974  إذ تم اعتقال عدد غفير من كوادر الحركة الإسلامية في العراق، واعدام خمسة منهم، وفي عام 1977  عندما انتفضت مدينة النجف الأشرف، مما حدى بالنظام الديكتاتوري أن يعدم عددا من الشباب بحجة خروجهم على القوانين واثارتهم الشغب، واستدعت الحكومة آنذاك الشهيد الصدر إلى بغداد وعاتبته على عدم تلبية طلباتهم في شجب هذه الأعمال واستنكارها. وكانت الشهيدة رحمها الله تعيش عن قرب من هذه الأحداث. 
وفي عام 1979  هذا العام الذي شهد تحركا سياسيا واسعا في العراق. جاءت الوفود ومن شتى أنحاء العراق مجددة البيعة للإمام الصدر، فأحست حكومة بغداد بخطورة الموقف وتفاقمه، وخوفا من أن يفلت زمام الأمر منها أقدمت على اعتقال الشهيد الصدر في 19 رجب، وهنا بدأ دور الشهيدة بنت الهدى لتقف موقفاً بطولياً، فخرجت من دارها ـــ دار السيد الشهيد ــــ وذهبت إلى مرقد الإمام أمير المؤمنين، وهناك نادت بأعلى صوتها، أيها الناس هذا مرجعكم قد أعتقل. فعلم الناس بالخبر، وسرعان ما انتشر، وما هي إلا ساعات حتى خرجت تظاهرة كبرى في مدينة النجف الأشرف معلنة عن سخطها واستنكارها لاعتقال السيد الشهيد الصدر، فسارعت الحكومة لإطلاق سراحه خوفا من توسع رقعة المظاهرات، وما أن وصل الخبر إلى بقية المدن العراقية حتى خرجت تظاهرات واسعة في بعضها مثل بغداد، والكاظمية، والناصرية، وجديدة الشط، والنعمانية، والسماوة. وقد خرجت أيضأ تظاهرات في بلدان إسلامية أخرى مثل لبنان، والبحرين، وإيران، وعندما عرفت السلطة خطورة الموقف فرضت الإقامة الجبرية على السيد الشهيد وعائلته وقطعوا عنهم الماء والكهرباء والهاتف. إلا ان الشهيدة بنت الهدى لم تثنها هذه الأفعال الاجرامية من السلطة، وأخذت تلتقي سراً بالنساء النجفيات وغيرهن من محافظات العراق خلال أيام الزيارات والمناسبات الدينية وتوصل لهن رسائل الشهيد محمد باقر الصدر لإيصالها لعموم الشعب العراقي، مما دعا حكومة البعث للإقدام على اعتقال الشهيد الصدر وأخته العلوية بنت الهدى في يوم السبت 19 جمادى الأولى سنة 1400 هـ، الموافق 5/ 4 /1980، وفي يوم 9/4/1980 قامت الطغمة الحاكمة في العراق  بتنفيذ حكم الإعدام بالسيد الصدر وأخته العلوية آمنة الصدر، لينسدل الستار عن حياة سيدة شجاعة كافحت الظلم والجور ضد شعب العراق من اعتى سلطة مجرمة في التاريخ الحديث، ولتبقى آثارها وكفاحها شعلة خالدة في سماء العراق وفي قلوب جميع من يتطلع الى الحرية ويكافح الظلم، وأصبحت رمزاً للتضحية والعطاء.

*قنصل العراق العام السابق في مونتريال
الكلمات الدالة