وليد حديد - مونتريال
العدالة، في جوهرها، ليست سيفًا يُشهر ولا عاصفة غضب، بل هي ميزان هادئ يُعيد التوازن بعد الخلل، ويضمن أن يأخذ كل ذي حق حقه، دون زيادة أو نقصان. لكنها، حين تُنتزع من جذورها الأخلاقية وتُزرع في أرضٍ ملوثة بالغضب التاريخي، تتحول إلى شيء آخر: وسيلة للثأر، وردّ للكرامة المجروحة، وساحة لصراعات قديمة بثوب قانوني جديد.
مجتمعات الجراح القديمة
المجتمعات التي عانت من الاستعمار، أو القمع، أو الانقسامات الأهلية، غالبًا ما تحمل ندوبًا نفسية عميقة. هذه المجتمعات لا تطلب العدالة بمعناها المجرد، بل تسعى لاستخدامها كأداة لـ”ردّ الاعتبار”، أو “إثبات الذات”، أو حتى لـ”الانتقام المقنّع”.
في مثل هذا السياق، تُصبح العقوبة وسيلة لإعادة تعريف الهوية، لا مجرد ردّ على الجريمة. ويتحوّل القانون إلى منصة لتفريغ تاريخ من القهر، لا منظومة لحماية الحقوق وتنظيم الحياة.
وهنا يحذّر الإنجيل من قسوة العدالة حين تنفصل عن الرحمة:
✦ «لأن الدينونة هي بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة. والرحمة تفتخر على الحكم» (يعقوب 2:13).
المجتمع العربي بين الشرف والثأر
في العالم العربي، تتشابك فكرة العدالة مع الكرامة والشرف والهوية القبلية. التاريخ الاجتماعي والسياسي لهذا الفضاء أنتج نمطًا ثقافيًا يجعل من العدالة امتدادًا لمعركة اجتماعية لا تنتهي.
في الكثير من السياقات، يُنظر إلى العفو على أنه ضعف، وإلى التسامح على أنه تنازل، فتُصبح العدالة مرادفًا “لردّ الصاع صاعين”، لا لضبط العلاقة بين الفرد والمجتمع وفقًا لمعيار قانوني وأخلاقي.
لكن التراثان الإسلامي والمسيحي يقدّمان رؤية مختلفة:
• قال النبي ﷺ: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، وبيّن أن نصرة الظالم تكون بردعه عن ظلمه، لا بالوقوع في ظلمٍ مقابل.
• وقال السيد المسيح: «أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم» (متى 5:44).
التراث الأصيل لا يُبرّر الانتقام
الميل إلى الانتقام لا يجد له أساسًا في التراث الأصيل، لا الإسلامي ولا المسيحي.
• فالقرآن الكريم ينهى بوضوح: «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى» (المائدة: 8).
• وفي الإنجيل يقول المسيح: «طوبى للرحماء، لأنهم يُرحمون» (متى 5:7)، و*«طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون»* (متى 5:9).
بهذا، نرى أن كِلا المرجعين يربطان العدالة بالرحمة، وينفيان عنها صفة الانتقام.
المفارقة الأخطر: من بدأ الظلم؟
في المجتمعات الجريحة، يكثر تداول سؤال: من بدأ الظلم؟ وهو سؤال يبدو مشروعًا، لكنه يُستخدم أحيانًا لتبرير استمرار العنف والظلم المعاكس، بحجة “الردّ”. وهنا تختلط الحدود بين الضحية والجلاد، ويضيع الفرق بين العدالة والثأر.
العدالة الحقيقية لا تُبنى بالغضب
العدالة الحقيقية لا تُبنى على الحقد، بل على المبدأ. لا يمكن تصحيح التاريخ عن طريق تكراره، ولا يمكن ردّ المهانة القديمة بإهانة جديدة.
بل إن العدالة الحقة تعني أن نُعالج الألم دون أن نُورثه، وأن نُحاسب دون أن نُذل، وأن نُصلح دون أن ننتقم.
• يقول القرآن: «وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله» (الشورى: 40).
• ويقول السيد المسيح: «سلامي أترك لكم، سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا» (يوحنا 14:27).
الخاتمة
حين تُصاب المجتمعات بجراح الظلم، تصبح العدالة في خطر: فإما أن تُستعمل كمرهم يشفي، أو كسيف ينتقم.
واللافت أن الإسلام والمسيحية، رغم اختلاف السياقات، يلتقيان في جوهر العدالة: الرحمة فوق الغضب، والإنصاف فوق الانتقام.
فالعدل لا يتحقق بتكرار الشر، بل بكسر دائرته. والكرامة لا تُستعاد بالثأر، بل بالارتقاء فوقه.
إنها رسالة إنسانية كبرى: أن بناء المستقبل لا يكون بالانتقام من الماضي، بل بتحويل الألم إلى فرصة للإصلاح والسلام.
*الصورة المرفقة هي رسم كاريكاتوري مولَّد بالذكاء الاصطناعي عبر أداة ChatGPT
53 مشاهدة
15 سبتمبر, 2025
124 مشاهدة
13 سبتمبر, 2025
131 مشاهدة
11 سبتمبر, 2025