Sadaonline

‎ ‎تأملات في الحياة والموت في السعادة والمقاومة

هناك نهاية تنتظرنا جميعًا، مهما أدرنا وجوهنا عنها


وليد حديد – مونتريال 

هذه اللحظة – لحظة الوقوف أمام النهاية دون محاولة الهرب – دفعتني إلى التفكير بجدية: ما الحياة؟ وما الذي نحاول فعله داخل زمن لا يتوقف؟ وما معنى أن نحيا ونحن نعرف أننا سننتهي؟
عاريًا أمام ذاتي: تأمّلات بعد زيارة الوطن ومواجهة الهشاشة
‎بعد عودتي إلى أرض الوطن، وبعد أن وطئت قدماي ترابًا حمل ذكرياتي الأولى، وجدت نفسي أقف عند مثوى عائلتي، حيث تسكن أسماء أحببتها يومًا وصارت اليوم صمتًا. وفي زيارتي تلك، وبين قبورٍ تعرفتُ عليها أكثر ممّا عرفت نفسي، كان هناك جسد ضعيف ومرض وحضور هشّ يشبه مرآةً قاسية.
‎عندها وقفت أمام نفسي عارياً؛ لا حماية من أوهام القوة، ولا أقنعة من انشغالات الحياة. عارياً فكريًا وواقعيًا، أمام حقيقة لم أعد قادرًا على تجاهلها: هناك نهاية تنتظرنا جميعًا، مهما أدرنا وجوهنا عنها.
‎هذه اللحظة – لحظة الوقوف أمام النهاية دون محاولة الهرب – دفعتني إلى التفكير بجدية: ما الحياة؟ وما الذي نحاول فعله داخل زمن لا يتوقف؟ وما معنى أن نحيا ونحن نعرف أننا سننتهي؟

‎1. لحظة الكشف: عندما تنسحب الأوهام
‎الحياة اليومية تُلبسنا طبقات من الانشغال تكفي لإخفاء هشاشتنا.
‎نظن أننا نمتلك الوقت، وأن المستقبل فضاء مفتوح لنُسقط عليه خططنا.
‎لكن زيارة الموتى، وملامسة المرض، يجرداننا من تلك الطبقات سريعًا. فجأة ندرك أن الزمن ليس خلفنا بل فوقنا، يراقب بصمت، ويقتطع منّا أجزاءً صغيرة كل يوم.
‎في تلك اللحظة، تتلاشى الجمل الكبيرة التي نردّدها، ويبقى السؤال الوحيد الذي لا مفر منه:
‎كيف أعيش حياة أعرف نهايتها؟

‎2. محاولة فهم الحياة: بين الإرادة والقدر
‎فكرت طويلًا، وحاولت فهم الحياة كما هي، لا كما نُحب أن تكون.
‎اكتشفت أن الإنسان يبذل جهدًا هائلًا ليصنع معنى يواجه به العدم. نُطبّق النظريات، ندرس، نعمل، ونظن أن الإرادة وحدها تكفي لصناعة مصير مختلف.
‎لكن الحقيقة أن الإرادة، مهما كانت قوية، تبقى محكومة بعوامل لا نملكها:
‎جسد يضعف، زمن يمرّ، ظروف تتبدل، وفجائعات لا تستأذن.
‎ورغم ذلك، فإن محاولة الفهم ليست عبثًا. لأن الإنسان، في عمق وجوده، هو الكائن الذي يعاند القدر بسؤال، ويقاوم النهاية بفكرة، ويمنح للزمن معنى رغم أنه لا يستطيع إيقافه.

‎3. النهاية التي نتجاهلها: رفيقة الطريق
‎النهاية ليست حدثًا بعيدًا، بل ظلّ يسير معنا.
‎نتجاهلها لأنّ الوعي بها كاملًا قد يُثقل قلوبنا.
‎لكن تجاهلها لا يمنع اقترابها، ولا يطيل الزمن.
‎والمفارقة أنّ الاعتراف بالنهاية لا يقود إلى الخوف دائمًا، بل إلى نوع من الصفاء.
‎فحين ندرك أن كل ما لدينا مؤقت، نفهم قيمة اللحظة أكثر، ونقترب من أنفسنا بصدق أكبر.

‎4. ما الذي وصلت إليه؟
‎بعد هذه التجربة، وصلت إلى قناعة واضحة:
‎الحياة لا تُفهم إلا في ضوء نهايتها.
‎وأن الإنسان لا يصبح صادقًا مع نفسه إلا عندما يرى هشاشته دون أقنعة.
‎القوة ليست في تجاهل الفناء، بل في القدرة على العيش رغم معرفته.
‎الحياة ليست سباقًا نحو “نهاية سعيدة”، ولا صراعًا لإثبات سيطرة مستحيلة.
‎الحياة هي أن تحيا وأنت تعرف أنك زائل،
‎أن تحب وأنت تعرف أنك ستفقد،
‎أن تبني وأنت تعرف أن ما تبنيه سيفنى،
‎ومع ذلك تستمر… لأن الاستمرار هو فعل المقاومة الوحيد الذي نملك.

خاتمة
‎في النهاية، يتأرجح الإنسان بين رغبةٍ في تغيير العالم وحقيقةٍ أنّ العالم هو الذي يُعيد تشكيله. بين حلمٍ بالسيطرة المطلقة وزمنٍ لا يُقهر. وبين سعيٍ نحو نهاية سعيدة وزمنٍ يسلبه صحته وعافيته دون أن يطلب الإذن.
‎ومع ذلك، يبقى معنى الإنسان في هذه المفارقة بالذات:
‎أن يعرف حدوده، ويواصل السير.
‎أن يدرك هشاشته، ويقاوم.
‎أن يقف أمام الزمن لا بوهم الانتصار، بل بوعيٍ أنّ الخسارة جزء من شروط الوجود، ومع ذلك يختار المواجهة.
‎وهنا، ربما، تكمن الحقيقة الأعمق للسعادة:
‎ليست في الوصول إلى النهاية، بل في الشجاعة التي يبديها الإنسان وهو يقطع الطريق إليها