Sadaonline

الولاية والتحرر: جدليّة الهوية والامتحان في أفق التكوين الإلهي

الولاية والتحرر: جدليّة الهوية والامتحان في أفق التكوين الإلهي

اسماعيل الحاج علي ـ غاتينو

في أزمنة الخواء الروحي والانغماس المادي، حين تُفكّك العقول من الداخل وتتصدّع الأرواح تحت وطأة اللاجدوى، يطلّ البلاء لا كعقوبة، بل كمرآة. إنه عين الله التي تُبصر ما لا يُبصر، وتُعيد بناء الإنسان من داخله، حين يتهاوى ظاهرُه في معمعة الغفلة. فليس البلاء إذًا حدثًا معزولًا، بل هو نتاج تكويني لخلل في البنية الروحية، واستدعاء إلهي لإعادة التموضع في خارطة الكمال.

وهنا، تنشأ العلاقة الأولى: العلاقة بين التمرّد الظاهري على البلاء، وبين غربة الإنسان عن مركزه التكويني. فكلما ضعف يقينُه بالله، خفَت تسليمُه، وارتبك وُجهُه، وسقط من مقام العبودية إلى هاوية السخط. وهذا التبدّل النفسي ليس طارئًا، بل هو ولادة متأخّرة لأزمة هوية ضاربة في العمق.

إن الأزمة، كما يكشفها النظر الوجودي، ليست سطحية أو تاريخية، بل تكوينية: الإنسان الحديث – شرقيًا وغربيًا – حين نزع عن ذاته بعدَها السماوي، وقطع حبل الولاية، خسر القدرة على إدراك ذاته، وسقط في تكرارات العدم.

وفي لحظة كهذه، تتجلّى الولاية لا كطرح مذهبي، بل كمنظومة نجاة، هوية تُعيد رسم الإنسان من الداخل، وتعيد ترتيب علاقاته مع العالم، لا على أساس السلطة أو الانتماء، بل على أساس النور والربط بالله. فالولاية، في جوهرها، ليست مجرّد ولاء، بل هي كشف عن المعنى؛ هي الكينونة المتوهّجة التي تصوغ الإنسان لا من موقع الانتماء الطقسي، بل من موقع التحقّق.

لكن لماذا الولاية بالذات؟ لأن الدين، إذا خلا من بُعد الولاية، انقلب إلى طقوس مفرغة، وإلى نظام قانوني بلا حياة. فالدين بلا ولاية كجسد بلا روح، وكفعل بلا غاية. وحين يعود الوعي إلى الولاية، فإنه لا يعود ليكرّر القديم، بل ليستخرج منه الجذوة التي تحرّر الإنسان من عبودية العصر: من سلطة الاستهلاك، ومن تسليع القيم، ومن اختزال الذات إلى وظيفة أو رقم.

وهكذا، تولِّد الولاية من داخلها مشروعًا حضاريًا متكاملًا، لا يقوم على الرفض الغاضب، بل على التأويل النبوي للعصر. فهي لا تعادي الحداثة كمنجز، بل تعيد توجيهها نحو وظيفتها الإنسانية: أن تكون خادمةً للخليفة الإلهي، لا ربًّا عليه.

من هنا، يصبح العارف بالولاية إنسانًا جديدًا: لا يهرب من العالم، ولا يذوب فيه، بل يحمل نور المعصوم كمصباحٍ في ليل التاريخ. وكل مؤسسة أو أمة تنهل من هذا الينبوع، تعيد اكتشاف موقعها في الوجود، لا عبر مفاهيم الحداثة فقط، بل عبر التحقّق بالمعنى.

إنها هوية تُعاش لا تُتوارث، وتُتجلى لا تُلقَّن. هي مشروع صيرورة، لا قالب جاهز. لذلك قال الشيخ محمد السند:

“الولاية ليست إطارًا سياسيًا أو طقسيًا، بل نظام هداية، ونظام إنسان جديد، ونظام وجود.”

وبهذا التوصيف، تُحرّر الولاية الإنسان من الثنائية الكاذبة بين السلطة والحرية، لتمنحه حرية في عين العبودية. فالعبد للحق، حرٌ من كل ما سواه. ومن تذوّق من هذا النور، استقام في مقامه، واستنار وجهه، وصار قلبه بوصلة، ووجدانه منارًا، يمشي في الأرض بنور محمد وآله، لا يضلّ من بعده أبدًا.