د. علي ضاهر ـ مونتريال
ما الاسم اللائق بأولئك الذين يصرخون "سيادة" في النهار، ويدعون العدو ليدخل ليلًا ونهارا؟ هل نسمّيهم "سياديون"؟ أم نمنحهم لقبهم الحقيقي: "مدّعو السيادة"؟ أو لعلّ الوصف الأدق هو "سياديون بوجهين": وجه للوطن، ووجه آخر مصوّب نحو الخارج او السفارات. وما الصفة المناسبة لمن يكتب رسائل تضرّع للعدو كي "يصفّي حسابه" مع جزء من أبناء بلده؟ أحرار آخر زمن؟ أم "أحرار الغفلة"؟
المشهد مقزّز: لبنانيون يشدّون الرحال إلى واشنطن كأنها "مخفر الضيعة" او "حائط مبكَى"، يذرفون الدمع بحرارة ويتقدّمون بعرائض ضد أهلهم؛ إعلاميون بربطات عنق يطلّون على الشاشات وكأنهم موظفون في "مصلحة التحريض" فيقرأون بيانات متطابقة حتى يخال لك أنّ ببغاء واحدًا درّبهم جميعًا؛ وكتّاب ينسخون الآراء نفسها بالحماسة ذاتها، مما يدعو الى الظن أن لبنان عاد إلى أيام المكتب الثاني: موظّف واحد يصوغ البيانات، والبقية يوقّعون بأسمائهم، مثل فرقة كورال اسمه "نعم سيدي".
فتّشوا السجلات! في أي بلد في العالم، من كندا مرورًا بأمريكا وصولًا إلى أوروبا، يستطيع مواطن أن يستدعي غزوًا أجنبيًا بلا مساءلة؟ الجواب: لبنان، حيث العجائب لا تحتاج إلى مصباح علاء الدين السحري ولا الى ساعات من البحث، بل إلى لحظة او رمقة عين. فنظام الزبائنية وديمقراطية الطوائف التوافقية المتجذّر والستة وستة مكرر يسمح بكل الموبقات، ومن بينها موبقة الارتباط بالخارج، التي صارت هواية وطنية مسجّلة ومحمية، لا تمس. فبعض اللبنانيين، من الذين وصفهم زياد الرحباني بـ"قرطة عالم مجموعين… لأ، مطروحين… لأ، مضروبين… لأ، مقسومين"، يفاخرون بقدرتهم البهلوانية على الجمع بين السيادة والعمالة في آن، كأنهم لاعبو خفة في سيرك، يلعبون بكرات "العمالة" و"الخيانة" بدون أن يتعرضوا لخطر السقوط على ارض العمالة او في خانة الخيانة!
لكن ما فات هؤلاء، الذين يستدعون الخارج لخدمتهم، أنّ أميركا ومن يدور في فلكها من توابع في الشرق الأوسط على شكل أجرام صغار ليسوا جمعية خيرية ولا "الأم تيريزا"، فإن مدّوا يد "المعونة" او لبسوا عباءة "المنقذ"، انتهت الحكاية بمأساة. فكلما تزيّنت واشنطن بقناع المساعدة، جاءت النتيجة مصيبة لا تُبقي على بلد ولا ترحم أهله. فهي لا تطلق كلابها إلا على غزلان، ولا توزّع "مساعدات" إلا لغاية في نفس يعقوبها.
انظروا إلى العراق: استُدعي العم سام من قبل "سيادييه" الذين لم يفلحوا في مجابهة صدّام، فجاءت القنابل لتقسم البلد وتحرق شعبه. في إيران، كان ذنب مصدّق أنه أمّم النفط، فاستنجد "السياديون" بالأميركي والإنكليزي، فجاءت الهدية: قتل وسجن وملكية قمعية. في ليبيا، دعا "ثوار السيادة" الغرب بقدّه وقديده، فكانت النتيجة: بلد محروق ومقسّم. في سوريا، حسب قول حمد بن جاسم: "تهاوشنا" على سوريا و"الصيدة فلتت"! لكن أمريكا وقاعدتها في المنطقة، لم تتأخرا، فقفزتا والتقطتا "الصيدة الفالتة" وأكلتا "أخضر سوريا ويابسها" وتركتا بعض الفتات لتركيا والسعودية!
واليوم يعود العرض ذاته إلى لبنان، مع شحنة من "الحربقة اللبنانية" التافهة التي يلجأ اليها السياديون: يصفّقون للطائرات حين تقصف، كأنها تلقي الحلوى؛ يتعانقون عند سقوط بناية، كأنها فرقعة عيد؛ يتحالفون مع سماسرة المال ومع "أولاد السفارات" و"اتباع أبو قفّة تمر" ويهولون مع محطات تلفزة ممولة من ممالك الخير، ومع ساسة يطالبون بغزو يطهّر الجنوب والضاحية والبقاع وكل لبنان ممن "لا يشبهونهم" ويهرولون نحو كل طامع، يطلبون تدخّله غير مبالين بتحويل لبنان إلى "ضيعة ضايعة"، حيث الكرامة سلعة، والوطنية بضاعة، والسيادة ماركة مسجّلة في سجلات السفارات ومضارب خيامها!
يقوم مدعو السيادة والحرية بكل هذه الأمور، بينما باقي اللبنانيين، المتّهمين من قبل "سياديو اخر زمن" بأنهم "ما بيشبهوهم" وانهم ليسوا "سياديين"، لم يستقبلوا يومًا غازيًا بفنجان قهوة، ولم يقدّموا "جاط تبولة" لوزير حرب، ولم يستنجدوا بأجنبي كي يفتعل حربًا بالنيابة عنهم او لقتل خصومهم، ولم يرشقوا الورود على المارينز، ولم يقوموا يوما بزيارة لعدو بلدهم، ولا دافعوا عن مفجّري عبوات في الضواحي، ولم يترجّوا أحدًا ليفتح لهم "بنك نفوذ" على حساب أولاد وطنهم، ولم يستدعوا الغريب. إنّما واجهوا خصومهم بالحجة والعمل الوطني وكلمة السواء! إن لبنان لا يحتاج إلى مزيد من "مستوردي السيادة" ولا إلى وكلاء حصريين للغزو، بل إلى من يملك الشجاعة والعزيمة.
التاريخ يعلّمنا أنه يحتقر من يدفع للخونة، ثم يرميهم في القمامة. أنه لا يرحم، وهو دائمًا يكتب العبارة نفسها على جبين الخائن: بائع وطن!
186 مشاهدة
04 ديسمبر, 2025
141 مشاهدة
24 نوفمبر, 2025
540 مشاهدة
23 سبتمبر, 2025