د. علي ضاهر
في كيبيك، لا يكفي أن تعيش فيها نصف قرن، أن تكتب بلغة موليير، أن تحصد الجوائز، أن تُدرِّس في المدارس، أن تُطرِب القلوب، أن تُحزِن الأرواح، أو أن تُسهِم في إعلاء الأدب والرياضة والفن. كل هذا لا يكفي. ما يلزمك لتُعتبر "كيبيكيًا أصيلًا نقيًا" هو شيء آخر تمامًا: المطلوب أن تبتسم حين يُلقى اللوم عليك، أن تصمت حين تُجحفك القوانين، وأن ترضى حين تنهال عليك سهام النقد. فإن تأففت، رموك بجمرات العقوق، وإن تذمّرت، وصفوك بالقبح وتعالت بوجهك الأصوات المطالبة برحيلك!
ففي الآونة الأخيرة، شنّ عنصريو كيبيك هجومًا على كيم ثوي، وكأنهم في معركة بين "قوى الخير" المتحدّرة من أصل فرنسي، و"قوى الشر" المتحدّرة من أصول غير فرنسية. سبب المعركة؟ نقدٌ وجّهته كيم ثوي، الروائية الكندية من أصل فيتنامي. حادثة نقد طبيعية في مجتمع يرفع راية حرية الرأي، كان يمكن أن تمرّ بهدوء لولا تعنّت العنصريين. تمامًا كحادثة إضاءة الروشة اللبنانية التي كان يمكن لها أن تمرّ بسلاسة، لولا تعنّت نواف سلام، رئيس وزراء لبنان، الذي حوّلها إلى قضية وجود سياسي، محاولا الاعتكاف عن ممارسة مهامه، قبل أن يُردع من قبل داعميه فيعود الباش كاتب المطيع إلى عمله. وكأنه بأعماله الماضية كان قد "شال المايلة والزير من البير" منذ أن أُسندت إليه رئاسة وزراء "هالكم أرزة العاجئين الكون"!ّ
المهم، ان الغضب العنصري انفجر في وجه كيم ثوي، التي تُعدّ من أبرز الأصوات الأدبية في كيبيك، والحائزة على جوائز عديدة، والتي كانت متربعة على قلوب أهل المقاطعة، حتى العنصريين منهم، قبل أن تُرجم وتُتّهم فجأة بأنها "ليست منّا"، هذه هي النسخة كيبيكية من العبارة اللبنانية العنصرية "ما بيشبهونا". اما سبب كل هذا الغضب: تجرؤها على القول إن كيبيك تغيّرت، ولكن ليس كما كانت تأمل. فحسب رأيها، وهي غير مخطئة في ذلك، إن "كل مشاكل كيبيك باتت تُلقى على ظهر المهاجرين"!
رغم أن كيم ثوي وصلت إلى كيبيك عام 1975، على متن "قوارب اللاجئين"، وهي في العاشرة من عمرها، ورغم أنها تعيش في المقاطعة منذ أكثر من خمسين عامًا، وتكتب بلغة أهلها الفرنسيين، وتشعر بما يشعرون، وتحزن لحزنهم، وتفرح لفرحهم، كل هذا لم يشفع لها ولم تنل، حسب رأيهم، شرف الهوية "الكيبيكية الأصيلة"، لأنها، وهذا حقها، تجرأت على نقد من يضع على ظهر المهاجرين كل المشاكل، بينما يقوم العديد من "الكيبيكيين الأصليين" بانتقاد مجتمعهم يوميًا، دون أن يُطلب منهم الرحيل أو يُشكك في ولائهم!
ما جرى لكيم ثوي، الكاتبة التي كانت مفخرة أهل كيبيك ورافعة رأسهم، يدفع إلى طرح سؤال بسيط: كم سنة يحتاج المهاجر ليُعتبر مواطنًا كيبيكيا أصيلًا، ليُسمح له بالنقد؟ واستطرادًا، كم من الوقت يحتاج المهاجر العربي ليُمنح حق الانتماء الكامل والأصيل إلى المجتمع الكيبيكي؟ فالعربي، مسيحي كان أم مسلم، في نظر عنصريي كيبيك وفي مرجعيتهم الفكرية وحسب منظّريهم العنصريين: "عصيٌّ على الاندماج"، "رافض للعلمانية"، "غريب عن القيم الكيبيكية".
في النهاية، يبدو ان الاعتراف بكيبيكية المهاجر، بالنسبة لليمين الكيبيكي، لا تكمن في عدد السنوات التي يقضيها المهاجر في كيبيك، ولا فيما قدمه من خدمات الى المجتمع الكيبيكي، بل في عدد المرات التي يُطلب منه أن يصمت، أن يشكر، أن لا يُزعج، أن لا يُلاحظ، وذلك كي يُمنح أخيرًا شرف "الانتماء الأصيل". اذ يبدو ان كيبيك قد تغيّرت فعلا، لكن ليس كما كانت تأمل كيم ثوي؛ بل تغيّرت نحو عنصرية يمينية زاحفة، كما هو حال معظم بلاد الغرب.
الصورة من ويكيميديا كومنز:G.Garitan
63 مشاهدة
06 ديسمبر, 2025
66 مشاهدة
04 ديسمبر, 2025
186 مشاهدة
04 ديسمبر, 2025