أمل جمال*
تُعد حرب غزة من أكثر النزاعات الدموية والمستمرة في التاريخ المعاصر، تركت آثارًا مدمرة على مختلف جوانب الحياة منذ اندلاعها، تمثلت في دمار البنية التحتية، وفقدان الأرواح ، وتشريد الآلاف من العائلات، فضلًا عن تفاقم الأزمات الاجتماعية والصحية والاقتصادية. وكتاب آلام النزوح شهادات الناجين من الإبادة الجماعية، يعد شاهدا حيا على حرب السابع من أكتوبر وموثقا لثارها بأقلام من عاشوها ولايزالون تحت القصف الذي لا ندري متى يتوقف . قرأت الكتاب الذي اقتنيته بعد مناقشته في أتيليه القاهرة في ندوة أقيمت في 21 مارس الماضي بحضور عدد من المثقفين والمهتمين والباحثين والطلاب الفلسطينيين الذين يتم رعايتهم ماديا في كليات الطب بمصر من بيت تراث العرب بكندا.
نوال حلاوة اسم كبير في الأدب الصحافة والاعلام وحياة مليئة بالعطاء. فهي روائية كندية من أصل عربي فلسطيني أردني وعضو اتحاد الصحفيين العالميين ومؤسس ورئيس بيت تراث العرب في كندا. لها العديد والعديد من الإصدارات المتنوعة صحفيا وأدبيا وباللغتين العربية والانجليزية وهذا الكتاب يعد استكمالا لمسيرتها الغنية والثرية في الكتابة بأشكال مختلفة والتي تدعم من خالها قضية فلسطين أبرزها روايات مثل الست زبيدة- التغريبة الفلسطينية الأولى قبل النكبة وبعدها مدينة يافا نموذجا . ورواية العنكريزية -التغريبة الفلسطينية الثانية مدينة الكويت نموذجا. ولعل أفضل طريقة لتناول كتاب من هذه النوعية هي عرضه بأمانة على القارئ ولذا آثرت أن يكون من كلماتها حتى يكون وجها لوجه مع المؤلفة. ويصحبها في كل كلمة.
تقول حلاوة: وردت فكرة هذا الكتاب فور التواصل الشخصي مع العائلات التي تكفل بدعمها أعضاء البيت وبمساعدة من ريع روايتها الأخيرة التي صدرت باللغة الإنجليزية(A Girl’s paradise lost ) التي أصدرتها بعد أسبوع من طوفان الأقصى وهي رواية سردية بلسان طفلة تتحدث عن نكبة فلسطين عام 1948 م. وبصفتها باحثة تهتم بالتراث العربي وتوثيقه وبالتعاون مع المتبرعين والمتبرعات من المعلمات والمشرفين التربويين بدأت بجمع قصص النساء النازحات لاسيما زوجات الشهداء التي أرسلت إليها عبر البريد الإلكتروني ثم تطورت الفكرة لتشمل أطفال ومعلمات مبادرات بيت تراث العرب لتعليم النازحين من الأطفال . وهكذا تم توثيقها وتجميعها في هذا الكتاب الذي يلملم الحكايات ويجمع القصص المرعبة التي عاشها أهل غزة لحظة بلحظة ويوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر ، منذ طوفان الأقصى حتى انتهاء الحرب لكي يكون الكتاب وثيقة ميدانية تـأريخية تدمغ تاريخ هذه الحركة العنصرية بالعار الأبدي، وتعبر عن صمود هذا الشعب الفلسطيني ، الذي ضرب المثل الأعلى في الصمود والبسالة عبر تمسكه بأرضه وحقوقه الوطنية المشروعة باذلا من أجل ذلك عظيم التضحيات. لذا فالكتاب يعد إضافة توثيقية مميزة إلى كل ما كتب عن القضية الفلسطينية والجرائم التي اقترفت في دير ياسين، وكفر قاسم والطنطورة وغيرها.
لم تكتب نوال حلاوة هذا الكتاب بقلمها، بل كتبه الوجع ولم تضطر إلى نسج شخصياته كروائية لأن أشخاصه يتكلمون بألسنتهم، بوجعهم وجوعهم. ببرد لياليهم وحر صيفهم وشتات عائلاتهم وجثث أطفالهم، وهدم منازلهم واستشهاد ذويهم، حتى الأطفال في هذا الكتاب تعالت أصواتهم بالوجع والأمنيات والابتهال إلى الله من أجل الحياة. أطفال الفقد العظيم منذ السابع من أكتوبر 2023 ؛أطفال لم يفقدوا أمهاتهم وآبائهم وإخوتهم فحسب، بل فقدوا أجزاء من أجسادهم صاروا عجزة قبل أن يستقيم عودهم ويقوى. صاروا أمهاتا صغارا ، فأصبح من العادي أن ترى طفلة صغيرة تحمل طفلة أصغر منها وتصبح مسئولة عنها بالكامل لأنهما فقدتا عائلتهم. وأباء صغارا أيضا لبعضهم البعض بفارق عدة سنوات . صار الأمر كهذا ببساطة ، طفل يجر أخيه الأصغر بعد تفجير منزلهم وقتل باقي العائلة ليصبح مسئولا عنه ومتكفلا بإعاشته. ناهيك عن الجوع والمرض وقلة مياه الشرب وندرة الغذاء. أطفال باختصار؛ فقدوا طفولتهم أمام عيون العالم كل العالم الذي يشاهدهم على الشاشات .
يعتبر كتاب آلام النزوح مرجعا هاما يوثق مرحلة مفصلية ليست في تاريخ الشعب الفلسطيني فحسب، بل في تاريخ العالم. ولعل العنوان يذكرني بعنوان فيلم آلام المسيح بشكل موازي.
إهداء الكتاب وجهته حلاوة " إلى الأطفال الذين عاشوا الحرب قبل أن يعيشوا طفولتهم إلى الصغار الذين كبروا قبل الأوان حاملين على التأمين ذكريات ثقيلة وأحلاما مكسورة إلى فلسطين الشهداء" أما المقدمة فاحتوت على خريطة لقطاع غزة توضح مساحة قطاع غزة و محافظاته الخمس(محافظة شمال غزة محافظة غزة محافظة الوسطى محافظة خانيونس محافظات رفح" والتي تضم ثمانية مخيمات هي مخيم جباليا مخيم الشاطئ مخيم رفح مخيم خان يونس مخيم البريج مخيم المغازي مخيم النصيرات و مخيم دير البلح، و وذكرت أنه سمي بقطاع غزة نسبة لأكبر مدنه وهي غزة كما أرخت لقطاع غزة، ثم عرفت القراء على الكثير من الأسماء التي يتم تداولها التي ربما لا يعرف القارئ عنها شيئا غير أسمائها مثل: بيت حانون المدينة الفلسطينية التي تقع على الطرف الشمالي الشرقي لقطاع غزة. وجباليا التي تقع على بعد 4 كم شمال مدينة غزة في محافظة شمال غزة قطاع غزة .وأرخت لتاريخها منذ الحاكم المملوكي سينجر الجولي في أوائل القرن الرابع عشر، وفسرت معنى اسمها وشهرتها بتربتها الخصبة وأشجار الموالح. ومخيم جباليا الذي يقع شمال مدينة غزة الذي يعد من أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية في قطاع غزة ويعيش فيه أكثر من 116 ألف لاجئ مسجل كانوا معظمهم قد فروا من قرى جنوب فلسطين في أعقاب حرب 1948.
ذكرت أيضا بيت لاهيا التي تقع شمال جباليا بجوار بيت حانون وذكرت تفسيرات عديدة لاسمها وأشارت إلى شهرتها بالتفاح.
ثم مدينة غزة ذات التاريخ الطويل مع الحروب منذ أن كانت قاعدة عسكرية لجيش الملك المصري تحتمس الثالث في حربه مع سوريا. وفي الأوقات اللاحقة أصبحت غزة واحدة من المدن الملكية الخمس للبيزنطيين وتم احتلالها من قبل الأشوريين في القرن الثامن قبل الميلاد إلى أن أصبحت في القرن السابع مدينة إسلامية مقدسة. مخيم الشاطئ الذي يقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط ويبعد عن وسط مدينة غزة حوالي 4 كم إلى الشمال الغربي منها والذي يعد ثالث أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية في القطاع وأنشئ عام 1950 .
مدينة دير البلح التي تقع على ساحل البحر المتوسط وعلى مسافة 10 كم شمال مدينة خان يونس و15 كيلومترا جنوب مدينة غزة، وتعرف حاليا بهذا الاسم لأنه قد أقيم فيها أول دير في فلسطين أقامه القديس هيلاريوس المدفون في الحي الشرقي من البلدة وسميت أيضا بالبلح لكثرة النخيل الذي يحيط بها. ومخيم دير البلح الذي يعد أصغر مخيمات اللاجئين في قطاع غزة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط إلى الغرب من مدينة دير البلح في وسط قطاع غزة أه وسكان المخيم أيضا كانوا قد فروا من بيوتهم في وسط وجنوب فلسطين جراء حرب 1948.
مخيم النصيرات يقع على بعد ثماني كيلومترات جنوبي مدينة غزة وعلى بعد 6 كم شمالي بلدة دير البلح وهو من المخيمات الكبرى في قطاع غزة. مخيم البريج يقع وسط قطاع غزة بجانب مخيمي المغازي والنصيرات إلى الجنوب من مدينة غزة وتم إنشاؤه في الخمسينيات من القرن العشرين ومخيم المغازي الذي يقع وسط قطاع غزة إلى الجنوب من مخيم البريج وقد تأسس عام 1949 وهو واحد من أصغر المخيمات في غزة سواء من حيث الحجم أو من حيث عدد السكان معظم اللاجئين الذين قدموا إلى المخيم كانوا قد فروا بسبب الأعمال العدائية التي رافقت حرب 1948 وأصولهم من القرى الواقعة جنوب ووسط فلسطين.
مدينة خان يونس ، تقع في الجزء الجنوبي من قطاع غزة وتبعد عن القدس مسافة 100 كم إلى الجنوب الغربي يحدها من الجنوب مدينة رفح ومن الشمال مدينة دير البلح وهي مركز محافظة ساحلية تطل على البحر الأبيض المتوسط من جهة الغرب ومن أشرق صحراء النقب ذكرت أن المماليك هم من أسسوا المدينة في القرن الرابع عشر وكان الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز أول الخلفاء الذين اتخذوا الخانات لراحة المسافرين و وظل لخانات دورها الوظيفي المهم بعد إذن وبخاصة في عهد المماليك حينما ظهرت حركة التجارة العالمية عبر دولة الممالك في المشرق العربي وفي العصر العثماني أخذت الفنادق تحل محل الخانات تدريجيا وقد انتشرت الخانات ومن بينها خان يونس كمحطات للقوافل التجارية على طول الطرق التي تمر فيها واعتاد التجار أني أووا إلى هذه الخانات بضائعهم ومواشيهم للاستراحة فيها من جهة و للتزود بالمواد التموينية والماء من جهة أخرى. أما مخيم خان يونس فيقع على بعد نحو كيلومترين من شاطئ البحر الأبيض المتوسط إلى الشمال من رفح وإلى الغرب من مدينة خان يونس التي تعد مركزا تجاريا رئيسيا وقد التجأ إليها الفارون من منازلهم بسبب حرب عام 1948 وكان معظمهم من منطقة بئر سبع.
أما عبسان الكبيرة فتقع في محافظة خان يونس في جنوب غزة وترتبط بمدينة خان يونس بشارع محلي يعبر قرى أخرى مثل بني سهيلة وخزاعة وتم في السنوات الأخيرة بناء عبسان الكبيرة وقرية عبسان الصغيرة المتجاورتين بحيث تشكلان منطقة حضرية أكبر حول خان يونس. عبسان الصغيرة هي بلدة زراعية تقع على بعد كيلومترين من جنوب شرق مدينة فان يونس في محافظة خان يونس جنوب قطاع غزة في نهاية العصر العثماني كانت تتكون من حوالي عشرة أكواخ ذات حجارة بناء قديمة.
المواصي هي قرية تقع على الساحل الجنوبي لقطاع غزة يبلغ عرضها حوالي كيلومتر واحد وطولها 14 كم وكانت قبل عام 2005 عبارة عن جيب فلسطيني داخل بؤرة كوش قطيف الاستيطاني. أما رفح فهي مدينة فلسطينية حدودية ومركز محافظة رفح تقع في أقصى جنوب قطاع غزة التابعة للسلطة الفلسطينية وتبعد عن القدس حوالي 107 كم إلى الجنوب الغربي تعتبر المدينة أكبر مدن القطاع على الحدود المصرية حيث تبلغ مساحتها 55 كم2 وقد بلغ عدد سكانها حوالي 190 2000 نسمة وهي تعتبر من المدن التاريخية القديمة فقد أنشأت قبل 5000 سنة وقد غز الفراعنة والآشوريون والإغريق والرومان وقسمت إلى شطرين بعد اتفاقية كامب ديفيد عندما انسحبت إسرائيل من كامل سيناء عام 1982 إلى جزئين الأول رفح الفلسطينية والثاني رفح من جانب مصر. تعتبر رفح البوابة الفاصلة بين مصر والشام وفي العهد المسيحي اعتبرت مركزا لأسقفية إلى أن فتح المسلمون العرب على يد عمرو بن العاص في عهد الخليفة عمر بن الخطاب.
أما مخيم رفح فيقع في جنوب قطاع غزة بالقرب من الحدود المصرية تأسس عام 1949 وكان من أكثر المخيمات اكتظاظا بالسكان في قطاع غزة ومع مرور الوقت انتقل آلاف اللاجئين من المخيم إلى مشروع إسكاني قريب من تل السلطان الأمر الذي جعل المخيم لا يكاد يمكن تمييزه عن المدينة المحاذية له.
يضم الكتاب بشكل مجمل162شهادة بقلم أطفال وفتيات ونساء ومعتقلي غزة وينقسم إلى فصلين. الفصل الأول بعنوان من عمق الألم تولد الرجولة. يحمل 117 شهادة كتبها أطفال غزة بأنفسهم عن الحرب وما فعلته فيهم وفيمن حولهم وما فعلته بأفراد أسرهم، كيف فقدوا أخوتهم كيف فقدوا والديهم كيف فقدوا عائلاتهم بأكملها وصاروا أيتاما فقراء يعيشون في العراء أو في خيمة من البلاستيك في أحسن الأحوال ، دونما ماء أو غذاء. مائة وسبعة عشر طفلة وطفلا تتراوح أعمارهم بين السادسة والثالثة عشرة قدموا شهادتهم الحية للعالم. كتبوها بالألم والدم والفقد والجوع واليتم شهادة تعلوها صورهم وسنهم وتحتها تاريخ كتابتها .
الفصل الثاني من الكتاب بعنوان: صمود نساء غزة بأحرف من نور وأمل. يضم هذا الفصل عدد 45 شهادة للسيدات وبنات غزه وشهادتين من قبل رجلين تصور تجربة الاعتقال المريرة. جميعها تجارب حية تصور آلام النزوح من البيت والاحتماء بمدرسة تتبع الأونروا مثلا أو أرصفة الشوارع وربما تقصف المدارس التي تم النزوح إليها . هذا غير شح المياه وغلاء الأسعار وانتشار الأوبئة والأمراض بسيول الأمطار ومخاطر الانتقال من مخيم إلى آخر . ناهيك عن الحر الشديد وانتشار الحشرات أيضا في الصيف. وأشكال الموت المختلفة للأزواج والأبناء والجدود والجدات التي تملأ عذابات حكاياتهم الشهادات.
الشهادات التي كتبت بعد القصف، على الركام ،وتحت الشظايا المتناثرة ،وبين الأشلاء. شهادات كتبت بالدماء والدموع ، بالاستشهاد بالفقد بالعجز الجسدي . لكنها تشهد أيضا على إرادتهم القوية وتمسكهم بأرضهم ووطنهم مهما كانت التضحيات ومهما كان الثمن.
هذا الكتاب على صعيد آخر بكل ما حملته الشهادات الموثقة من ألم وفقد ودماء يعد شهادة معبرة عن قوة الشعب الفلسطيني وصموده وتمسكه بأرضه ووطنه ومطالبه المشروعة مهما كان الثمن ومهما تعاظمت التضحيات.
نتمنى أن تكون حرب غزة هي آخر الحروب التي تدمي قلب العالم، وأن تنعم - ليست غزة فقط، بل كل مناطق الحروب في العالم بالأمن والسلام. وألا يكون السلام مجرد حلم، بل يصبح واقعاً بتضافر الجهود الدولية الجهود الإرادة الموحدة لتحقيق العدالة لكل إنسان. نسعى جميعاً ليوم في تاريخنا يبتسم فيه الأطفال في غزة وجميع المناطق التي عانت أو لازلت تعاني من ويلات الحروب.
* باحثة دكتوراه - القاهرة
80 مشاهدة
05 مايو, 2025
738 مشاهدة
19 أبريل, 2025
317 مشاهدة
25 فبراير, 2025